162…إن الذي يعنينا في الأمر هو نقل الخلافة ومقرها من المدينة إلى الكوفة، وسواء كان ذلك عن قناعة خاصة بالخليفة أوأقنعه به غيره، وسواء كان ذلك الغير هم السبئيون أم قوم آخرون، فإن النقل قد تم ومضى.
وإن الذي لا شك فيه هو أن نقل العاصمة قد ترتب عليه حرمان المدينة من كل ما كانت تتمتع به من السلطة السياسية التي كانت توجه أمور المسلمين وتدبر شؤونهم.
لقد أصبحت الكوفة مقصد الناس، فيها خليفتهم، وتصدر منها الأوامر التي تهم عامتهم، ومنها تخرج الجيوش غازية، وترفع إليها أحوال الرعية حيث يقضي الخليفة فيها بما يراه، وإليها تقصد الوفود من أنحاء الدولة، واحتلت الكوفة مكانة المدينة السياسية.
ولولا أن الخليفة شغل بالفتن التي لم تهدأ، وانحصرت الحياة السياسية في أنحاء الدولة المترامية في الخلاف الذي نشب بين المسلمين، ولولا أن المسلمين أرهقتهم الحروب الطاحنة بين العراق والسام وكلاهما جزء من الدولة الإسلامية الموحدة، لولا ذلك لأصبح الكوفة مركز في التاريخ لا يقل أهمية عن مركز المدينة عاصمة الإسلام الأولى.
وفقدت المدينة بذلك سلطانها على الناس، حيث أصبح مقر الخليفة خالياً، فلم يقصدها أحد لقضاء مصلحة، ولم يلتفت إليها احد لتدبير أمر، واتجه الأمراء برسائلهم إلى الكوفة العاصمة الجديدة وتلقوا منها ما يهمهم من أوامر الدولة.
ولولا مركزها الروحي في نفوس المسلمين حيث يضم مثوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولولا أن مسجدها أحد المساجد التي تشد له الرحال، وفيها قبر الرسول الكريم، ولولا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يرغب المسلمين في العيش فيها، يحبب إليهم الموت على أرضها (1) لنسيت المدينة تماماً ولم يعد لها…
__________
(1) مسلم (4/ 118).