كتاب الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه

164…شيء مهما كان موقع العاصمة الجيددة وثراؤها، ومهما كانت قوتها وعدد رجالها، لأنهم لن يجدوا فيها غذاء أرواحهم، وحياة قلوبهم.
ومن يدري لعل أمير المؤمنين كان قد تحول مؤقتاً حتى يطفئ الفتنة، ويقضي على المتردين.
حتى إذا استقر له الأمر، وأذعنت له النفوس فاء إلى العاصمة الحبيبة ولكن الأمور لم تستقم له، والنية عجلت به في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة أربعين من الهجرة، وذلك حين طعنه عبد الرحمن بن ملجم أحد الخوارج بسيف مسموم فلقي الله، ولحق بصاحبيه شهيداً راضياً مرضياً.
وانتقلت بذلك الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، واجتمع عليه المسلمون، ولكنه لم يتخذ المدينة عاصمة، ولم يحاول العودة إليها، بل ظل في مقر إمارته بالشام واتخذ من دمشق عاصمة للمسلمين فبقيت المدينة سلوبة السلطة، بعيدة عن التوجيه وإن بقي حبها عالقاً في قلوب المسلمين.
الوضع الاقتصادي:
كان من نتائج تلك الثورة النكدة نقل مقر الخلافة كما بينت، وكان من ثمرات هذا التحول التغيير في الأوضاع الاقتصادية المزدهرة التي كانت تنعم بها المدينة فإن من المعلوم أن العاصمة دائماً تكون أكثر البلاد ازدهاراً، وأعظمها رخاءً، لأن الناس يقصدونها من سائر الجهات فيبيعون ويشترون، ويجلبون إليها طمعاً في انتعاشها، ويحملون منها ما لا يوجد في بلادهم من الطرف والهدايا، فيكثر حينئذٍ التبادل التجاري، وتكثر الخيرات، وتزداد الموارد، وينشط تبعاً لذلك الوضع الاقتصادي.
وكانت المدينة كجميع العواصم تنعم هاذ الازدهار الاقتصادي، حيث كانت الأموال تجبي إليها من أنحاء الدولة وأطرافها المترامية، فالمغانم والخراج والجزية والعشور والضرائب التجارية التي كانت تحصل من التجار غير المسلمين، والزكاة التي هي أحد أركان الإسلام، كل هذه الموارد كانت تصب في العاصمة، لتخرج منها في شكل مخصصات لأفراد الدولة ومشاريع عامة.

الصفحة 164