كتاب الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه

167…تحول عنها ليستقر في الكوفة أو دمشق، ومضت سنوات الفوضى والقلق واستتب الأمر لمعاوية فانفردت دمشق بكل ما كانت تتمتع به المدينة وسكانها.
وكما حرمت المدينة من السلطة السياسية حرمت من الازدهار الاقتصادي وأصبحت عالة على دمشق يأتيها رزقها من هناك بعد أن كانت تخرج منها الأرزاق إلى جهات الدولة المعتمدة، وعاشت تابعة بعد أن كانت متبوعة.
وأغلب الظن أن المدينة قد تعرضت لمضايقات اقتصادية تبعاً للوضع السياسي الجديد.
لقد بدأت السياسة في تلك الفترة تشكل كل الأوضاع بحسب اتجاها، فالموالون للدولة المؤيدون لها لهم من الحظوة ما ليس لغيرهم، فهم المقربون وهم المترفون، وهم أصحاب الرأي الجيد والقول المسموع، وبالعكس من ذلك تماماً المعارضون.
ومن المعلوم أن المدينة المنوّرة كانت من البلاد التي دانت بالطاعة وبايعت أمير المؤمنين - علي بن أبي طالب - ووقفت في جواره إلى آخر لحظات حياته، حتى بايع أهلها ابنه الحسن -رضي الله عنه- بعد وفاته خليفة للمسلمين.
وأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وإن كان قد ترك الميدنة، وتحول عنها إلى الكوفة إلا أن المدينة واهلها لم يتحولوا عنه، وظل ولاؤهم له ولأولاده وحفدته من بعده، وبقدر ما كانت المدينة تصر على ولائها لعلي وأبنائه، بقدر ما كان حرمانها من عطف الحكام وانتباههم لمصالحها.
ولقد لعب المال دوراً خطيراً في تشكيل سياسة الدولة في تلك الحقبة، فكان وسيلة إغراء للمعارضين ليؤيدوا ويسيروا مع السائرين، وكان في نفس الوقت سلاحاً رهيباً يسلط على المصرَّين من المعارضين، يخضعهم بجبروته للدولة أو يعيشون في جحيم الحرمان والفاقة والمسبغة.

الصفحة 167