كتاب الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه

168…وإن المدينة قد وقفت بإخلاص إلى جوار الخليفة الذي بايعته، واعتبرت التعرض له والوقوف في وجه تحدياً لها، وإن اهل المدينة قد رفضوا أن يسلموا السلطان المال، وأن يجعلوا له عليهم سبيلاً، ورأوا أن من الوفاء للبيعة التي أعطوها، والإخلاص للخليفة الذي بايعوه أن يكونوا صرحاء مع من اعتدى عليه، واغتصب حقه، فلا يخلصون له، ولا يرضون عن تصرفاته.
وهم وإن كانوا قد بايعوا الخليفة الجديد، إلا أن تلك البيعة فيما يبدو كانت لجمع الشمل وعدم تفريق كلمة المسلمين.
ولقد تعرضت المدينة بسبب موقفها السياسي لضغط اقتصادي، فلم تكن مثل غيرها من البلاد المؤيدة للوضع الجديد مما اضطر كثير من الناس إلى التحول عنها إلى غيرها من الجهات التي تسبغ عليها الأموال.
روى مسلم في صحيحه عن يحنس مولى الزبير أنه كان جالساً عند عبد الله ابن عمر في الفتنة فأتته مولاة له تسلم عليه فقالت: إني أدرت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان فقال لها عبد الله: اقعدي لكاع، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) (1).
وعلى هذا فإن الحديث يخبرنا عن شدة نزلت بالمدينة وأهلها حتى فكر الناس في تركها والبحث عن مكان يجدون فيه الرخاء والسعة والمقدرة على إعالة الأهل والعيال، ألا ترى إلى قول الجارية لعبد الله بن عمر: (أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان).
إن هذا التعبير مع بساطته يوحي بقدر ما كان ينعم به الناس من الرخاء في المدينة ثم اشتد عليهم الأمر شدة لم يستطيعوا تحملها حتى فكرت الجارية في الخروج، وجاءت تستأذن مولاها في ذلك فإذا بلغ الأمر…
__________
(1) مسلم بشرح النووي (9/ 151 - 152).

الصفحة 168