39…من العهود بمثل هذه السرعة الفائقة، فإن كل ما اشرنا إليه قد تحقق للمسلمين في فترة لا تتجاوز عشر سنوات، أي منذ هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة إلى وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومن المعلوم أن تلك الفترة لا تعتبر شيئاً مذكوراً في حياة الأمم وتاريخها إذ تقاس حياة الأمم ونهضتها في عمرها التاريخي بعشرات السنين بل بمئاتها وآلافها.
وإذا كان الإسلام قد استطاع أن يربي جيلاً وينشئ حضارة ويبعث نهضة في تلك الفترة الوجيزة فإن ذلك دليل قاطع على الإمكانات الهائلة التي يملكهاغ هذا الدين وإذا كانت هذه الحضارة وتلك النهضة في أمة أميَّة لم تعرف لها حضارة سابقة ولم يسجل لها التاريخ نهضة من قبل فإن ذلك يزيد من يقيننا بضخامة تلك الإمكانات مهما تجاهلها المتجاهلون، وأمعن في جحودها المنكرون.
إن عشر سنوات أو حتى ثلاثا وعشرين سنة - عمر الوحي بأكمله - لا تزيد عن عمر شاب من الشباب يضيع أكثر من نصفه في اللهو واللعب فكيف تكفي لتربية جيل وإقامة حضارة، وبعث نهضة إلا أن يكون وراء ذلك قوة خفية تصبغ المنتمين إليها بصبغة تحولهم إلى طاقات هائلة فيندفعون بكل هذه الطاقات للعمل المثمر الذي لا يعرف الملل، ولا تتسرب إليها السآمة، بل لا يعرف الراحة التي ينشدها كل مجتهد.
إن الإسلام قد لمس جوانب الخير في النفس الإنسانية ففجر ذلك السر الرباني فيها، فنهضت تبني في الحر والبرد، والشبع والجوع، والغنى والفقر، والصحة والمرض، ووضعت أساس هذا البناء وهي تئن تحت لهيب السياط فأحكمته، وتحدث بهذا الصرح الشامخ أولئك المعاندين وهي طريدة مشردة فأعجزتهم.
إنني على يقين من أن أمر هذا الدين محيَّر لمن يجهلون حقيقته، وفي نفس الوقت مدهش معجب لمن يعرفون تلك الحقيقة، إنه قادر في أي زمان ومكان على تربية جيل كالجيل الأول، وإقامة حضارة وبعثة نهضة كتلك الحضارة والنهضة السالفتين، فعلينا أن نعود إليه ليعود إلينا ما فقدناه بتركه.
…