كتاب الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه

54…ولكن هذا لا يدل على أن الذين كانوا يحفظون القرآن أربعة، ولكنه يدل على أن هؤلاء الأربعة قد اتقنوه بحيث لا يقدم عليهم غيرهم.
وهذا الحديث يدل على أن الحفاظ كانوا متفاوتين في الجودة والإتقان شأنهم في ذلك شان كل طائفة من الناس تجتمع على أمر من الأمور فإنهم لا بدّ ان يتفاوتوا في تحصيله وإتقانه بحسب مواهبهم وملكاتهم.
ولا شك أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، وفهمه والعمل بما فيه، ولم يكن المقياس عندهم كثرة الحفظ، ولكن المقياس الحقيقي كان مرتبطاً بفهم ما يحفظ والعمل به، يقول أنس - رضي الله عنه -: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا (1).
وأقام ابن عمر - رضي الله عنه - على حفظ البقرة ثماني سنوات، لأنه كان لا ينتقل من الآيات حتى يفهمها (2).
والمفهوم من هذا أن الحفاظ في هذا العهد لم يكونوا مجرد لسخ من القرآن متكررة، وإنما كانوا نماذج عملية لما يطالب به القرآن الكريم المسلمين من الفهم والوعي والعمل، أي أن المسلمين كانوا في حركة دائبة في مدارسة القرآن للوقوف على أسراره، والتحلي بأخلاقه، والتمسك بتعاليمه، فالقرآن إذن كان مدرسة يحرص كل الأصحاب على الالتحاق بها، والاستفادة من نظمها، حتى كان الذين يشغلون عن ذلك بالجهاد أو طلب الرزق يندمون على ما فاتهم وإننا لنرى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يدع له الجهاد في سبيل الله فرصة لدراسة القرآن وتعلمه فيشعر بالندم لما فاته من الخير، فيقول: لقد شغلني الجهاد عن تعلم الكثير من القرآن (3).
ويأتي دور المحدثين، وهم أولئك الذين رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضبطوا عنه قوله أو فعله أو إقراره، وهؤلاء قد حفظوا للإسلام ثروة…
__________
(1) رواه احمد.
(2) الاتقان (2/ 208).
(3) الإصابة (1/ 414).

الصفحة 54