كتاب الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه

71…وتعسين نفساً، ثم كمل المائة بالراهب الذي أفتاه بأنه لا توبة له (1) إلى غير ذلك من الأخبار التي فيها عبرة وعظة.
وأما علم الجغرافيا وهو المعروف عند المسلمين قديماً باسم التقويم أو تقويم البلدان فهو علم عرف في عهد الخلفاء الراشدين لما فتحت الفتوح، ودخل المسلمون في بلاد الفرس والروم، حينئذٍ أمر الخلفاء قواد الجيوش أن يرفعوا إليهم التقارير بوصف البلاد التي فتحوها.
وقد كتب عمرو بن العاص تقريراً إلى أمير المؤمنين عمر بن الخاب يصف فيه مصر، وقد جاء التقرير في غاية الفصاحة والدقة، حتى ان عمر -رضي الله عنه- لما قرأه قال: لله درك يا ابن العاص لقد وصفت لي خبراً كأني أشاهده (2).
وهذا نص التقرير:
مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغور، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر ميمون الغدوات، مبارك الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان، تظهر به عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عج عجيجه، وتعظمت أمواجه، لم يكن وصول بعض أهل القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادة نَكصَ على عقبه كأول ما بدا في شدته، وطمى في حدته فعندئذٍ يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، يبذرون الحب ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، سقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فعند ذلك يدرُّ حلابه، ويغني ذبابه.
فبينما هي يا أمير المؤمنين درة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، وإذا هي زبرجدة خضراء. فتعالى الله الفعال لما يشاء.
الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنها فيها ألا يقبَلُ قول…
__________
(1) رواه مسلم.
(2) النجوم الزاهرة (1/ 33).

الصفحة 71