كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

الزُّهْرِيِّ والذي يظهر أيضاًً أن تدوين الزُّهْرِي للسُنَّةِ لم يكن كالتدوين الذي تم على يد البخاري ومسلم أو أحمد وغيره من رجال المسانيد، وإنما كان عبارة عن تدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مُبَوَّبٍ على أبواب العلم، وربما كان مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد، وقد نستأنس لهذا بما روي عنه من أنه كان يخرج لطلابه أجزاء مكتوبة يدفعها إليهم لِيَرْوُوهَا عَنْهُ، وبذلك كان الزُّهْرِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أول من وضع حجر الأساس في تدوين السُنَّةِ في كتب خاصة، بعد أن كان عدد من علماء التَّابِعِينَ يكرهون كتابة العلم خشية من ضعف الذاكرة، بل كان الزُّهْرِيُّ نفسه في بدء شهرته العلمية يكره كتابة العلم ويمتنع عنه، حتى رغب إليه بذلك عمر بن عبد العزيز، وسيأتي معنا مزيد بيان لهذا البحث عند الكلام عن الزُّهْرِيِّ.

ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزُّهْرِيَّ. وكان أول من جمعه بمكة ابن جُرَيْجٍ (- 150 هـ) وابن إسحاق (- 151 هـ) وبالمدينة سعيد بن أبي عروبة (- 156 هـ) والربيع بن صُبيح (- 160 هـ) والإمام مالك (- 179 هـ) وبالبصرة حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (- 167 هـ) وبالكوفة سفيان الثوري (- 161 هـ) وبالشام أبو عمرو الأوزاعي (- 157 هـ) وبواسط هُشَيْمٌ (- 173 هـ) وبخراسان عبد الله بن المبارك (- 181 هـ) وباليمن مَعْمَرٌ (- 154 هـ) وبالريِّ جرير بن عبد الحميد (- 188 هـ) وكذلك فعل سفيان بن عيينة (-198 هـ) والليث بن سعد (- 175 هـ) وَشُعْبَةُ بْنِ الحَجَّاجِ (- 160 هـ). وهؤلاء جميعاً كانوا في عصر واحد وَلاَ يُدْرَى أيهم سبق إلى ذلك، وكان صنيعهم في التدوين أن يجمعوا حديث رسول الله مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد، قال الحافظ ابن حجر: «[وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى] الجَمْعِ بِالأَبْوَابِ، أَمَّا جَمْعُ حَدِيثٍ إِلَى مِثْلِهِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ فَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ الشَّعْبِيُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذَا بَابٌ مِنَ الطَّلاَقِ جَسِيمٌ» (¬1).

ثم جاء القرن الثالث فكان أزهى عصور السُنّة وأسعدها بأئمة الحديث
¬__________
(¬1) " توجيه النظر ": ص 8.

الصفحة 105