كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

على ذلك قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). أي أهل العلم بدين الله وشريعته، ولا شك أن الله كما حفظ كتابه حفظ سُنَّتَهُ، بما هَيَّأَ لها من أئمة العلم يحفظونها ويتناقلونها ويتدارسونها ويميزون صحيحها من دخيلها، وقد أفنوا في ذلك أعمارهم وبذلوا من الجهود ما قدمنا الحديث عنه في الفصل الثالث من الباب الأول، وبذلك أصبحت سُنَّةُ الرسول مدرسة محفوظة مُدَوَّنَةً في مصادرها لم يذهب منها شيء.

وقد نص العلماء، وفي مقدمتهم الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ -، على أن السُنَنَ موجودة عند عامة أهل العلم، وإن كان بعضهم أجمع من بعض، ولكن إذا جمع علمهم أتى عليها كلها، وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره (¬2)، ولا شك أننا نقطع بهذه النتيجة فنحن لا نشك في أنه لم يضع من سُنَّةِ رسول الله في الصلاة والزكاة والحج والصيام والمعاملات والفرائض شيء قطعًا، وأن كل ما كان عليه رسول الله أو قاله مجموع مُدَوَّنٌ وإن اختلفت طرقه وتباينت مراتبه، قال ابن حزم: «وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرِيِعَةِ فِي أَنَّ كُلَّ وَحْيٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَهُوَ ذِكْرٌ مُنَزَّلٌ، فَالوَحْيُ كُلُّهُ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِيَقِينٍ، وَكُلُّ مَا تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ فَمَضْمُونٌ أَنْ لاَ يُضِيعَ مِنْهُ وَأَلاَّ يُحَرَّفَ مِنْهُ شَيْءٌ أَبَدًا تَحْرِيفًا لاَ يَأْتِي البَيَانُ بِبُطْلاَنِهِ» ثم رد ابن حزم على من زعم أن المراد بالذكر في الآية القرآن وحده، فقال: «هَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ البُرْهَانِ وَتَخْصِيصٌ لِلْذِّكْرِ بِلاَ دَلِيلٍ ... وَالذِّكُرُ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَىَ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ وَحْيٌ يُبَيِّنُ بِهَا القُرْآنَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬3) فَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَأْمُورٌ بِبَيَانِ القُرْآنَ لِلْنَّاسِ، وَفِي القُرْآنِ مُجْمَلٌ كَثِيرٌ كَالَصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالحَجِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ نَعْلَمُ مَا أَلْزَمَنَا اللهُ تَعَالَى فِيهِ بِلَفْظِهِ،
¬__________
(¬1) [سورة النحل، الآية: 43].
(¬2) " الرسالة ": ص 43.
(¬3) [سورة النحل، الآية: 44].

الصفحة 157