كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

الاستغلال المادي، بل من نوع الدهاء، فإنَّ ذلك يظهر لنا من بعض الأخبار التي لا تزال محفوظة عند الخطيب البغدادي، ويمكن استخدامها هنا فنجد فيه أخباراً من طرق مختلفة عن عبد الرزاق بن هَمَّامٍ (- 211 هـ) عن معمر بن راشد (- 154 هـ) الذي كان مِمَّنْ يسمع من الزُّهْرِي، وهو أنَّ الوليد بن إبراهيم الأموي جاء إلى الزُّهْرِي بصحيفة وضعها أمامه وطلب إليه أنْ يأذن له بنشر أحاديث فيها على أنه سمعها منه، فأجازه الزُّهْرِي على ذلك من غير تَرَدُّدٍ كثير وقال له: من يستطيع أن يخبرك بها غيري؟ وهكذا استطاع الأموي أنْ يروي ما كتب في الصحيفة على أنها مروية عن الزُّهْرِي، وهذا يتفق مع ما ذكر سابقاً من أمثلة عن استعداد الزُّهْرِي لإجابة رغبة البيت المالك بالوسائل الدينية، وقد كانت تقواه تجعله يشك أحياناً لكنه لا يتسطيع دائماً أنْ يتحاشى الدوائر الحكومية، وقد حدثنا معمر عن الزُّهْرِي بكلمة مُهِمَّةٍ وهي قوله: «أَكْرَهَنَا هَؤُلاَءِ الأَمَرَاءِ عَلَى أَنْ نَكْتُبَ " أَحَادِيثَ "». فهذا الخبر يفهم استعداد الزُّهْرِي لأنْ يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمَّة الإسلامية، ولم يكن الزُّهْرِي من أولئك الذين لا يمكن الاتفاق معهم، ولكنه كان مِمَّنْ يرى العمل مع الحكومة، فلم يكن يتجنب الذهاب إلى القصر، بل كان كثيراً مِمَّا يتحرك في حاشية السلطان، بل إننا نجده في حاشية الحَجَّاجِ في حَجِّهِ، وهو ذلك الرجل المبغَض، وقد جعله هشام مُرَبِّياًً لولي عهده، وفي عهد يزيد الثاني قبل منصب القضاء، وتحت تأثير هذه الحالات كان يغمض عينيه، ولم يكن من أولئك الذين وقفوا أزاء خلفاء الجور والظلم، كما يسمي الأتقياء هذا البيت، ثم ذكر المستشرق ما في زيارة أهل الظلم وأتباع السلطان من فتنه، وأنهم كانوا يعدون من قََبِِل منصب القضاء غير ثقة، وأنَّ الشعبي كان يلبس الألوان ويلعب مع الشباب حتى لا يتخذ للقضاء، وأنه حارب الحَجَّاجَ مع ابن الأشعث، وأنَّ من المُقَرَّرِ عند العلماء أنَّ من تولى القضاء فقد ذُبح بغير سِكِّينٍ.

ثم قال المستشرق بعد أنْ فرغ من اتِّهَامِ الزُّهْرِي: «ولم يقتصر الأمر على وضع أحاديث سياسية أو لصالح البيت الأموي بل تَعَدَّى ذلك إلى الناحية الدينية في أمور العبادات التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، مثل ما هو معروف من أنَّ خطبة الجمعة كانت خطبتين، وكان يخطب الخلفاء وُقُوفًا وأنَّ خطبة العيد كانت تتبع الصلاة فغيَّرَ الأُمَوِيُّونَ ذلك، فكان يخطُب الخليفة خُطْبَةَ الصلاة، وَاسْتَدَلُّوا

الصفحة 192