كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

بذلك بما رواه رجاء بن حيوه من أنَّ الرسول والخلفاء كانوا يخطُبون جلوساً، في حين قال جابر بن سَمُرَة: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ خَطَبَ جَالِساً فَقَدْ كَذَبَ» (*).

ومثل ذلك ما حصل من زيادة معاوية في درجات المنبر وما كان من جعله المقصورة التي أزالها العباسيون بعد ذلك. كما لم يقتصر الأمر على نشر أحاديث ذات ميول، بل تعداه إلى اضطهاده أحاديث لا تمثل وجهات النظر، والعمل على إخفائها وتوهينها، فَمِمَّا لا شك فيه أنه كانت هناك أحاديث في مصلحة الأُمَوِيِّينَ اختفت عند مجيء العباسيين: وقد استدل في سبيل تأييد قوله بأدلة من قدح بعض العلماء في بعض مِمَّا يخرجونه مخرج الجرح والتعديل، ما ورد كثير منه عن السلف القدماء يقول: فمن ذلك قول المُحَدِّثِ عاصم بن نبيل (هو الحافظ الثقة الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل من أصحاب زفر وليس عاصم بن النبيل) - توفي سَنَةَ 212 وعمره 90 سَنَةً» (¬1) - «مَا رَأَيْتُ الصَّالِحَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ». ويقول مثل ذلك يحيى بن سعيد القطان (192 هـ) ويقول وكيع عن زياد بن عبد الله البكَّائي: «إِنَّهُ مَعَ شَرَفِهِ فِي الحَدِيثِ كَانِ كَذُوباً» ولكن ابن حجر يقول في " التقريب " «ولم يثبت بأنَّ وكيعاً كذَّبهُ»، ويقول يزيد بن هارون: إنَّ أهل الكوفة في عصره ما عدا واحداً كانوا مُدَلّسِينَ، حتى السفيانان ذُكِرَا بين المُدَلِّسِينَ. وقد شعر المُسْلِمُونَ في القرن الثاني بأنَّ الاعتراف بِصِحَّةِ الأحاديث يجب أنْ يرجع إلى الشكل فقط، وأنه يوجد بين الأحاديث الجَيِّدَةِ الإسناد كثير من الأحاديث الموضوعة»، وساعدهم على هذا ما ورد من الحديث: «سَيَكْثُرُ التَحْدِيثُ عَنِّي فَمَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثٍ فَطَبِّقُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ ِمنِّي، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ».

هذا هو المبدأ الذي حدث بعد قليل عند انتشار الوضع، ويمكن أن نتبين شيئا من ذلك في الأحاديث الموثوق بها، فمن ذلك ما رواه مسلم من " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلاَبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ " فأخبر ابن عمر أنَّ أبا هريرة يزيد «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» فقال ابن عمر: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَهُ أَرْضٌ يَزْرَعُهَا». فملاحظة ابن عمر تشير إلى ما يفعله المُحَدِّثُ لغرض في نفسه.
¬__________
(¬1) انظر: " تذكرة الحفاظ ": 1/ 333.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) [قارن بما في صفحتي 226 و228 من هذا الكتاب].

الصفحة 193