كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

وهذا شُرَيْحٌ، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكثير غيرهم تولوا القضاء في عهد بني أمية، ومنهم من تولى القضاء لِلْحَجَّاج نفسه، وما نعلم أن أحداً جَرَّحَ هؤلاء العلماء لتوليهم القضاء، أما أن الشعبي كان يهرب من القضاء، وأنه حارب الحَجَّاجَ مع ابن الأشعث، فها هنا مغالطة منكرة، إذ الواقع أن الشعبي بعد أن حارب الحَجَّاجَ تولى القضاء في عهد الحَجَّاجِ ليزيد بن عبد الملك بعد خمود فتنة ابن الأشعث، فلماذا تجاهل آخر الأمر الذي كان عليه الشعبي وهو الأولى بالاحتجاج؟

أما زعمه بأن الأتقياء كانوا يتحرزون من القضاء ويعدون توليه مُسْقِطاً للثقة بالقاضي، واحتجاجه بحديث: «مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِياً فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» (¬1) فهذا نقل عن أئمتنا لا يتفق مع الواقع، فقد نصوا على أن القضاء تعتريه الأحكام الخمسة، وأن تولي القضاء لِلْظلَمَةِ جائز بلا نزاع، وأن المراد بقوله: «مَنْ تَوَلَّى القَضَاءَ ... الخ» حث القاضي على أن يتوقى الحُكْمَ ويعدل فيه.

قال شيخ الإسلام المرغيناني في " الهداية ": «[ثُمَّ] يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنَ السُّلْطَانِ الجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنَ العَادِلِ، لأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -[تقلَّدُوهُ] مِنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَالحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ فِي نَوْبَتِهِ، وَالتَّابِعُونَ تَقَلَّدُوا مِنَ الحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِرًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُمَكِّنُهُ مِنَ القَضَاءِ بِحَقٍّ» (¬2) اهـ.

وقال ابن العربي من علماء المالكية عند شرحه لكتاب القضاء في " الترمذي ": «وَالوِلاَيَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عَلَى الأَعْيَانِ وَإِنِّمَا هُوَ عَلَى الكِفَايَةِ، فَلَوْ دَعَا الإِمَامُ إِلَى العَوْنِ جَمِيع النَّاسِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا لأَثِمُوا، وَإِذَا قَبِلَ بَعْضُهُمْ أُجِرُوا وَسَقَطَ الفَرْضُ عَنْ البَاقِينَ» اهـ.

وقال ابن فَرْحُون في " تبصرة الحكام ": «وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ الأَحَادِيثِ
¬__________
(¬1) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن غريب (6/ 66 - " سنن الترمذي بشرح ابن العربي ").
(¬2) " فتح القدير ": 6/ 364.

الصفحة 224