كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

وأخيراً أذكر رأيي في المؤلف نفسه (أَبِي رَيَّةَ)، والله يعلم أني لا أريد أن أغمطه حقه.

أَوَلاً: إنني أحاول أن أصدق المؤلف فيما ادعاه في مقدمة كتابه وفي آخره من أنه عُنِيَ بهذه الأبحاث دفاعاً عن سُنَّةِ الرسول وعن سمعة الدين من تشويه الكَذَّابِينَ وغيرهم. إذ لا يجوز لي أن أتحكم في نيته وغرضه وأن أكذبه فيما ادَّعَى من حسن النية، ولكنه في رأيي كانت له مع هذه النية «رغبات نفسية» فأخذ في البحث على هُدَى هذه الرغبات، ولو تخلى عنها وَتَجَرَّدَ منها، لأداه بحثه المجرد إلى غير ما انتهى إليه.

ثَانِياً: إنه ذكر ما عاناه في سبيل بحثه من تتبع للكتب وتنقيب عن الأخبار خلال سنين طويلة، ولا شك أن جهد العالم في البحث والتنقيب يستحق الشكر والأجر، ولكنه بجانب هذا أنكر جهود جميع علماء السُنَّةِ من صحابة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى عصرنا هذا، أنكره من حيث نعى عليهم تقصيرهم في تمحيص الأحاديث، وغفلتهم عن تحكيم «العقل» في النقد، ومن حيث اعتبر جهودهم في معرفة المُدْرَجِ فِي الحَدِيثِ، وَالمُضْطَرِبِ، وَالشَاذِّ، وَالمُعَلَّلِ، وغير ذلك مِمَّا هو من مفاخر اليقظة العلمية في ميادين العلم، لقد اعتبر ذلك كله مَدْعَاةً للشك في الحديث بدل أن يكون مَدْعَاةً للثقة به، وإن في إنكاره لجهود هؤلاء العلماء خلال ثلاثة عشر قرناً أو تزيد - وهي الجهود التي لا مثيل له ولا لِعُشْرِ معشارها لدى أُمَّةٍ من الأمم - مَدْعَاةً للعبرة والعظة، فإذا كان جهد أَبِي رَيَّةَ في بعض سنوات، وهو في بلده يقلب صحائف الكتب، ثم تعبه في «تبويب كتيبه الصغير» إذا كان هذا جهد مِمَّا يستحق أن يَمُنَّ به على العلم وَالمُثَقَّفِينَ وَالمُعْتَنِينَ بالدراسات الدينية. أن يرجو من الله أجره وثوابه، فهل يعد هذا شيئا بجانب جهود أولئك العلماء الذين كان أحدهم يمشي آلاف الأميال على قدميه، ويطوف بأقطار العالم الإسلامي عشرات السنين، ويسهر الليالي على ضوء الشمعة والقنديل؟ هذا مع أنهم لَمْ يَمُنُّوا بجهودهم تلك على المُسْلِمِينَ وإنما كانوا يرجون رضى الله وحده، أفيكون من عرفان جميلهم أن يأتي مثل أَبِي رَيَّةَ فَيَتَّهِمَهُمْ بالتقصير لأنهم كان يجب عليهم أن يُؤَلِّفُوا مثل كتابه منذ ألف سَنَةٍ؟ .. إن كان قَارِئٌ لكتابه يستطيع أن يجيب على هذا السؤال.

الصفحة 42