كتاب السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (اسم الجزء: 1)

على أبي بكر حوادث كثيرة رجع فيها إلى سُنّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيها أنه طلب مِمَّنْ أخبره عن رسول الله راوياً آخر يشهد له إلا هذه الحادثة، بل ذكر الرازي في " المحصول " أن أبا بكر قضى بقضية بين اثنين فأخبره بلال أنه - عَلَيْهِ السَلاَمُ - قضى فيها بخلاف قضائه فرجع (¬1) فإن صحت هذه الرواية كان ذلك مؤكداً لما ذهبنا إليه، وقد ذكر ابن القيم عن أبي بكر خطته في القضاء فقال: «كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَظَرَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ سَأَلَ النَّاسَ: هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إلَيْهِ الْقَوْمُ فَيَقُولُونَ: قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُنَّةً سَنّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ رُؤَسَاءَ النَّاسِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ قَضَى بِهِ» (¬2).

والحاصل أنا لا نجد في نص من النصوص أن أبا بكر طلب مِمَّنْ حدَّثه بحديث عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راوياً آخر إلا نص الجدة، وهذا يحتمل أن يكون من أبي بكر زيادة في الاحتياط والتثبت فقط، خصوصاً وأن توريث الجدة إثبات حكم لم يرد في القرآن فكان تشريعاً لا بد فيه من الاحتياط والتوقي، لا سيما أن أكثر أحكام المواريث شرعت بنصوص من القرآن لا أن ذلك خطة دائبة له وطريقة درج عليها أن لا يقبل حَدِيثًا إلا إذا رواه اثنان. قال الغزالي في " المستصفى ": «أَمَّا تَوَقُّفُ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ فَلَعَلَّهُ كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ اقْتَضَى التَّوَقُّفَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، أَوْ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ أَوْ لِيَعْلَمَ هَلْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِثْلُ مَا عِنْدَهُ. لِيَكُونَ الْحُكْمُ أَوْكَدَ أَوْ خِلاَفَهُ فَيَنْدَفِعَ، أَوْ تَوَقَّفَ فِي انْتِظَارِ اسْتِظْهَارٍ بِزِيَادَةٍ، كَمَا يَسْتَظْهِرُ الْحَاكِمُ بَعْدَ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَى جَزْمِ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يُصَادِفْ الزِّيَادَةَ، لاَ عَلَى عَزْمِ الرَّدِّ أَوْ أَظْهَرَ التَّوَقُّفَ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الإِقْدَامُ عَلَى الرِّوَايَةِ
¬__________
(¬1) " المحصول " للرازي (مخطوط).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[انظر " المحصول " للرازي. دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني، 4/ 369، الطبعة الثالثة: 1418 هـ - 1997 م، نشر مؤسسة الرسالة].
(¬2) " إعلام الموقعين ": 1/ 51.

الصفحة 71