كتاب العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي

العذاب لا يقع إلا بعد البيان:
وقال الإمام البغوي: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) الآية معناه: ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ). يريد: حتى يتقدم إليكم بالنهي فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال.
قال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة فافعلوا أو ذروا.
وقال الضحاك: ما كان الله ليعذب قوماً حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون. ا. هـ.
قلت: فهذه أقوال المفسرين في هذه الآية أنها نزلت بسبب استغفار المسلمين لآبائهم المشركين تأسياً بإبراهيم الخليل، صلى الله عليه وسلم، في استغفاره لأبيه. وهذه معصية لم يسبق النهي عنها في حقهم بنص فخاف المسلمون من الإثم بعد نزول النهي عنها، فنزل قول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً). وقال العلماء: إنها عامة في جميع الأوامر والنواهي دون الشرك والابتداع وبهذا تأتلف النصوص والأدلة الشرعية بفضل الله وحده.
الضلال المستوجب للعقوبة لا يكون إلا بعد البلاغ:
والضلال المنفي في الآية هو الضلال المستوجب للعقوبة كما قال الضحاك وهذا (أي العقاب) مرفوع في الأصول والفروع والكليات والجزئيات حتى يأتي الشرع لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ولا حظر ولا أمر إلا بشرع ولا يلزم العباد التكليف إلا بالبلوغ منع انتفاء المعارض من التمكن من العلم فهذا هو الضلال المستوجب للعقوبة في الدارين:
وأما الضلال الذي هو الغياب عن سنن الهدى فهذا متحقق قبل النص لأنه لا خروج من الضلال إلا بنص من الله جل ثناؤه ومن هذا يعلم قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم" (¬1) ... فلا خروج من الضلال إلا بالنص والبلاغ عن الله. لذلك من وقع في الشرك قبل البعثة فهو مشرك ضال ولو لم يأته بيان من الله لنقضه العهد والميثاق والفطرة وحجية الآيات لكونية لذلك وصف القرآن المشركين قبل البعثة بالضلال كقوله تعالى: (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ). وقوله تعالى:
¬_________
(¬1) صحيح مسلم -كتاب البر والصلة والآداب وابن ماجه في الزهد والترمذي -باب صفة القيامة.

الصفحة 233