كتاب العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي

وقال ابن كثير: يخبر -تعالى- أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم: شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه -تعالى- فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ... ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ... (وأخذ بدلل على رجحان هذا القول). قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا (¬1) (هذا) (¬2)، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. فلو كان قد وقع هذا (¬3) كما قاله من قال لكان لكل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده. فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءت به الرسل من هذا وغيره وهذا (¬4) جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه: الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد. ولهذا فال: (أَن تَقُولُواْ). أي: لئلا تقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا). أي: التوحيد غافلين (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا). الآية اهـ.
وقال البغوي: ... فإن قيل: كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة. قوله -تعالى-: (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ). يقول: إنما أخذ الميثاق عليك لئلا تقولوا أيها المشركون: إنا أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم، أي: كنا أتباعاً لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم وتقولوا: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله -تعالى- بأخذ الميثاق على التوحيد (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ)، أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من الكفر إلى التوحيد اهـ.
وقال ابن القيم (¬5): (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ). وهذا يقتضي إقرارهم
¬_________
(¬1) أي الإشهاد.
(¬2) أي فطرهم على التوحيد.
(¬3) أي الإشهاد الحقيقي والخروج من صلب آدم عليه السلام حقيقة لأخذ العهد والميثاق.
(¬4) أي العهد والميثاق.
(¬5) أحكام أهل الذمة جـ: 2 ص: 527.

الصفحة 32