كتاب موسوعة التفسير المأثور (اسم الجزء: 22)
لطلَّقكِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فبَكتْ أشدَّ البكاء، فقلتُ لها: أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هو في خِزانته في المَشْرُبَة (¬١). فدخَلتُ، فإذا أنا برباحٍ -غلامِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- قاعدًا على أُسكُفّة المَشْرُبَة مُدلّيًا رجليه على نَقيرٍ من خشب، وهو جذعٌ يرقى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينحدر. فناديتُ: يا رباح، استأذِن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فنظر رباح إلى الغُرفة، ثم نظر إلَيّ، فلم يقل شيئًا، ثم قلتُ: يا رباح، استأذِن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فنَظر رباح إلى الغُرفة، ثم نظر إليّ، فلم يقل شيئًا، ثم رفعتُ صوتي، فقلت: يا رباح، استأذِن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني أظن أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنّ أني جئتُ من أجل حفصة، واللهِ، لَئِن أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرْب عُنُقها لأضربنّ عُنُقها. ورفعتُ صوتي، فأومأ إليّ: أن ارْقَه. فدخَلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُضطجعٌ على حصير، فجَلستُ، فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثرّ في جَنبه، ونظرتُ في خِزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أنا بقبضةٍ مِن شعير نحو الصاع، ومثلها من قَرَظٍ (¬٢) في ناحية الغُرفة، وإذا أفِيقٌ (¬٣) معلّق، قال: فابتَدرتْ عيناي، قال: «ما يبكيك، يا ابن الخطاب؟». فقلتُ: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثرّ في جَنبك، وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كِسرى وقَيْصر في الثمار والأنهار، وأنتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوته وهذه خِزانتك؟! فقال: «يا ابن الخطاب، ألا ترضى أنْ تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟». قلتُ: بلى. قال: ودخَلتُ عليه حين دخَلتُ، وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلتُ: يا رسول الله، ما يشقّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنتَ طلَّقتهنّ فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلّما تكلمت -وأحمد الله- بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يُصدّق قولي الذي أقوله، ونزلت هذه الآية: {عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ}، {وإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تَظاهَران على سائر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسول الله، أطلَّقتَهنّ؟ قال: «لا». قلتُ: يا رسول الله، إني دخَلتُ المسجد والمسلمون يَنكُتُون بالحصى، يقولون: طلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه. أفأنزِل فأُخبِرهم
---------------
(¬١) المشربة -بضم الراء ويجوز فتحها-: الغرفة المرتفعة. فتح الباري ١/ ٤٨٨.
(¬٢) القرظ: ورق السلم أو ثمر السنط يدبغ به الجلد. القاموس المحيط (قرظ).
(¬٣) الأفيق: الجلد الذى لم يتم دباغه. وقيل: ما دبغ بغير القرظ. النهاية (أفق).
الصفحة 25
808