كتاب تاريخ بغداد وذيوله ط العلمية (اسم الجزء: 22)

هذه القراءة لم يخرج بها أبو حنيفة عن الأصل لأن الأصل في ضمير الذكور هو الرفع لأنك تقول هو، وضمير المؤنث هي، وهذه المسالة التي جرت بين سيبويه والكسائي لأن الكسائي جعل ضمير المؤنث منصوبا فقال: إياها وسيبويه كان معه الحق فمن عرف هذا عرف ما قلت، لأن الهاء عائدة إلى الرزق وهو مذكر وعلى هذا قرأ من قرأ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ
ألا ترى أنه لما جاء إلى ضمير المذكر أجراه على الأصل وإنما كسر من كسر الهاء من ضمير المذكر في المجرورات اتباعا للكسرة كما أمال من أمال للاتباع، وأن الهاء حرف خفى أخفى من الألف فلما ساغ لهم الإمالة في الألف مع أنها أشد من الهاء فلأن تمال الهاء أجدر.
وأما قوله يلحنون فاللحن ليس هو الخطأ على لغة العرب وإنما يحتمل معنى غير المفهوم الأصل وذلك أن الحديث إذا احتمل معنى ظاهرا واحتمل معنى آخر قيل له لحن، ومن هاهنا سمى ابن دريد كتابه المعروف بملاحن بن دريد وذلك أنه قال: إذا قال له شخص رأيت فلانا فقال والله ما رأيته ولا كلمته فظاهر اللفظ يدل على رؤية العين والكلام باللسان. وإنما الحالف يعنى ما ضرت رئته ولا جرحته وهو مأخوذ من الكلم وهي الجراح. قَالَ اللَّه تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
لأنه يكون كلاما يدل على معنيين مثل ذلك قوله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
ألا تراه جعل له أحسن وغير أحسن قال الشاعر:
حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم ... والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا
فلو حملنا هذين البيتين على ظاهر لفظهما لما دلا على معنى لأن قوله الذئاب قد اخضرت براثنها، والناس كلهم بكر، كل جملة من هاتين الجملتين غير مناسبة للجملة الأخرى. وهذا محمول على أن رجلا كان من تغلب وكان أسيرا في بنى وائل فرأى الناس يتمتعون للنهيض إلى قومه وكان قومه في أرض يقال لها الدهناء فقال لأصحابه إنى أريد أن أفادى نفسي فهل لكم في الفداء. قالوا نعم- قال ائتوني برجل أرسله فلما جاءه قال أبلغ قومي التحية وقل لهم قد أطلتم الركوب على ناقتي الحمراء فخلوا عنها وارتحلوا الجمل الأصهب فقد شكت الإماء ودبى العرفج بآية ما أكلت معكم حيسا واسألوا أبا الحسين عن خبري. فلما جاء إلى أهل الأسير قال لهم الرسالة قالوا والله إنه لمجنون لا ناقة حمراء له ولا جمل أصهب. فقال: أحدهم إنه قال لكم

الصفحة 43