كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب (اسم الجزء: 22)

ذكر وصية المنصور لابنه المهدى
قال: ولما سار المنصور من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه «1» ، وأحضر المهدى وكان قد صحبه فوصّاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بكرة وعشية، فلما كان فى اليوم الذى ارتحل فيه قال له:
إنى لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل منها واحدة- وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدى: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإنّ فيه علم آبائك- ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة- فإن أهمّك أمر فانظر إلى الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا فى الثانى والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل! واقطن «2» هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين لكفاك لأرزاق الجند والنفقات ومصلحة الثغور والذريّة ومصلحة البعوث، فاحتفظ به، فإنك لا تزال عزيزا مادام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل! وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، وأن تحسن إليهم وتقدمهم، وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر، فإنّ عزّك فى عزّهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل! وانظر إلى مواليك وأحسن إليهم وقرّبهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل.! وأوصيك بأهل خراسان فإنهم أنصارك، وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم فى دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم فى أهله وولده، وما أظنك تفعل!

الصفحة 103