كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب (اسم الجزء: 22)

يخدش واحد منهما صاحبه، ثم تحاجزا «1» بشىء فزجّ كل واحد منهما رمحه، وانتضى سيفه فتجالدا مليّا، واشتد عليهما الحرّ وتبلّد الفرسان، وجعل ابن الجزرى يضرب الضربة التى يرى أنّه قد بلغ بها، فيتّقيها الرومى وكان ترسه من حديد، ويضربه الرومى ضربة معذر، فلما يئس كل واحد منهما من الوصول إلى صاحبه انهزم ابن الجزرى، فدخلت المسلمين «2» كآبة لم يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا، وإنما كانت هزيمته حيلة منه فاتبعه العلج، وتمكّن ابن الجزرى منه فرماه بوهق فوقع فى عنقه فما أخطأه، وركض فاستلبه عن فرسه ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون أعلى تكبير، وانخزل المشركون وبادروا الباب يغلقونه، واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد: اجعلوا النار فى المجانيق، ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة، وأضرموا نارا ورموا بها السور، فكانت النار تلصق به وتأخذه الحجارة، وقد تصدّع فتهافت، فلما أحاطت بهم النيران فتحوا الباب مستأمنين، فقال الشاعر المكى الذى ينزل جدّة «3» :
هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... حوائما «4» ترتمى بالنفط والنار
كأنّ نيراننا فى جيب «5» قلعتهم ... مصبغات «6» على أرسان قصّار
قال محمد بن يزيد: وأعظم الرشيد الجائزة للجدّى الشاعر، وصبّ الأموال على ابن الجزرى وقوّد، فلم يقبل التقويد وسأل أن يعفى، ويترك

الصفحة 157