كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 24)

وَلَا إِذا قتل نَفسه عمدا. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَلَيْسَ مطابقاً لما بوب لَهُ. قلت: إِنَّمَا قَالَ: خطأ، لمحل الْخلاف فِيهِ. قَالَ ابْن بطال، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: تجب دِيَته على عَاقِلَته فَإِن عَاشَ فَهِيَ لَهُ عَلَيْهِم وَإِن مَاتَ فَهِيَ لوَرثَته. وَقَالَ الْجُمْهُور، مِنْهُم: ربيعَة وَمَالك وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا شَيْء فِيهِ. وَحَدِيث الْبَاب حجَّة لَهُم حَيْثُ لم يُوجب الشَّارِع لعامر بن الْأَكْوَع دِيَة على عَاقِلَته وَلَا على غَيرهَا، وَلَو وَجب عَلَيْهَا شَيْء لبينه لِأَنَّهُ مَكَان يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْبَيَان، إِذْ لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَالنَّظَر يمْنَع أَن يجب للمرء على نَفسه شي بِدَلِيل الْأَطْرَاف فَكَذَا الْأَنْفس. وَأَجْمعُوا على أَنه إِذا قطع طرفا من أَطْرَافه عمدا أَو خطأ لَا يجب فِيهِ شَيْء. قَالَ الْكرْمَانِي: إِن لفظ: فَلَا دِيَة لَهُ، فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة لَا وَجه لَهُ، وموضعه اللَّائِق بِهِ التَّرْجَمَة السَّابِقَة أَي: إِذا مَاتَ فِي الزحام فَلَا دِيَة لَهُ على المزاحمين عَلَيْهِ، لظُهُور: أَن قَاتل نَفسه لَا دِيَة لَهُ، وَلَعَلَّه من تَصَرُّفَات النقلَة عَن نُسْخَة الأَصْل. وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: دِيَته على عَاقِلَته، فَرُبمَا أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا ردهم. انْتهى. قلت: على هَذَا لَا وَجه لقَوْله: وموضعه اللَّائِق بِهِ التَّرْجَمَة السَّابِقَة، بل اللَّائِق بِهِ أَن يذكر فِي الترجمتين جَمِيعًا. فَافْهَم.

6891 - حدّثنا المَكّيُّ بنُ إبْراهِيمَ، حدّثنا يَزيدُ بنُ أبي عُبَيْدٍ، عنْ سَلَمَةَ قَالَ: خَرَجْنا مَعَ النَّبيِّ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُل مِنْهُمْ: أسْمِعْنا يَا عامِرُ مِنْ هُنَيَّاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ فَقَالَ النبيُّ مَنْ السَّائِقُ قالُوا: عامِرٌ. فَقَالَ: رَحِمَهُ الله فقالُوا: يَا رسولَ الله هَلاَّ أمْتَعْتَنا بِهِ؟ فأُصيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ فقالَ القَوْمُ: حَبطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَلمَّا رَجَعْتُ وهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أنَّ عامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبيِّ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ الله فَداكَ أبي وأُمِّي زَعَمُوا أَن عامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ؟ فقالَ: كَذَبَ مَنْ قالَها، إنَّ لهُ لأجْرَيْنِ اثْنَيْنِ: إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجاهِدٌ وأيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ؟
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لم يحكم بِالدِّيَةِ لوَرَثَة عَامر على عَاقِلَته أَو على بَيت مَال الْمُسلمين.
وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع بِفتْحَتَيْنِ ابْن عَمْرو بن الْأَكْوَع واسْمه سِنَان الْأَسْلَمِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث هُوَ التَّاسِع عشر من ثلاثيات البُخَارِيّ، وَقد مضى فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي، وَفِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْمَظَالِم عَن أبي عَاصِم النَّبِيل، وَفِي الذَّبَائِح عَن مكي بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: إِلَى خَيْبَر هِيَ قَرْيَة كَانَت للْيَهُود نَحْو أَربع مراحل من الْمَدِينَة إِلَى الشَّام. قَوْله: أسمعنا بِفَتْح الْهمزَة أَمر من الإسماع. وعامر هُوَ عَم سَلمَة، وَقيل: أَخُوهُ. قَوْله: من هنياتك بِضَم الْهَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف جمع هنيَّة وَقد تبدل الْيَاء هَاء فَيُقَال: هنيهة، وَيجمع على هنيهات، وَأَرَادَ بهَا الأراجيز، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِحَذْف الْيَاء. قَوْله: فحدا بهم أَي: ساقهم منشداً للأراجيز. قَوْله: أمتعتنا بِهِ أَي: وَجَبت لَهُ الشَّهَادَة بدعائك وليتك تركته لنا وَكَانُوا قد عرفُوا أَنه لَا يَدْعُو لأحد خَاصَّة عِنْد الْقِتَال إلاَّ اسْتشْهد. قَوْله: فأصيب على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: فأصيب عَامر صَبِيحَة ليلته تِلْكَ. قَوْله: فَلَمَّا رجعت الْقَائِل بِهِ عَامر. قَوْله: وهم يتحدثون الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: اثْنَيْنِ تَأْكِيد لقَوْله: أَجْرَيْنِ قَوْله: لجاهد مُجَاهِد كِلَاهُمَا اسْم الْفَاعِل الأول من جهد وَالثَّانِي من جَاهد مجاهدة، وَمَعْنَاهُ: جَاهد فِي الْخَيْر مُجَاهِد فِي سَبِيل الله، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى أَنه لجاهد بِلَفْظ الْمَاضِي مُجَاهِد بِفَتْح الْمِيم جمع مجهد يَعْنِي: حضر مَوَاطِن من الْجِهَاد عدَّة مُجَاهِد. قَوْله: وَأي قتل يزِيدهُ عَلَيْهِ أَي: أَي قتل يزِيدهُ الْأجر على أجره؟ ويروى: يزِيد، بِدُونِ الْهَاء، وَقيل: أَي أَنه بلغ أرقى الدَّرَجَات وَفضل النِّهَايَة. وَفِي التَّوْضِيح وَإِنَّمَا قَالُوا: حَبط عمله، لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَن يتَعَمَّد قتل نَفسه، إِذْ الْخَطَأ لَا ينْهَى عَنهُ أحد، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قبل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ}

الصفحة 51