كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 24)

وَقَالَ ابنُ عُمَرَ والزُّهْرِيُّ وإبْرَاهِيمُ: تُقْتَلُ المُرْتَدَّةُ.
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تقتل الْمَرْأَة الْمُرْتَدَّة، فعلى هَذَا لَا فرق بَين الْمُرْتَد والمرتدة بل حكمهمَا سَوَاء. وَأثر ابْن عمر أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَمَّن سمع ابْن عمر، وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح ينظر فِي جزم البُخَارِيّ بِهِ على قَول من قَالَ: المجزوم صَحِيح. وَأثر الزُّهْرِيّ وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي الْمَرْأَة تكفر بعد إسْلَامهَا قَالَ: تستتاب فَإِن تابت وإلّا قتلت. وَأثر إِبْرَاهِيم أخرجه عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن معمر عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن أبي معشر عَن إِبْرَاهِيم مثله. وَاخْتلف النقلَة عَن إِبْرَاهِيم. فَإِن قلت: أخرج ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن عُبَيْدَة عَن إِبْرَاهِيم: لَا تقتل. قلت: عُبَيْدَة ضَعِيف فَالْأول أولى، وروى أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن عَاصِم عَن أبي ذَر عَن ابْن عَبَّاس: لَا تقتل النِّسَاء إِذا هن ارتددن.
واسْتِتابَتِهمْ.
كَذَا ذكره بعد ذكر الْآثَار الْمَذْكُورَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر ذكره قبلهَا، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: واستتابتهما بالتثنية على الأَصْل لِأَن الْمَذْكُور اثْنَان: الْمُرْتَد والمرتدة، وَأما وَجه الذّكر بِالْجمعِ فَقَالَ بَعضهم جمع على إِرَادَة الْجِنْس. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، بل هُوَ على من يرى إِطْلَاق الْجمع على التَّثْنِيَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وجيريل وَصَالح الْمُؤمنِينَ والملاكة بعد ذَلِك طهير} وَالْمرَاد قلباكما.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاَْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}
آل عمرَان: 86 90
هَذِه خمس آيَات مُتَوَالِيَات من سُورَة آل عمرَان فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَالَ الله تَعَالَى:

إِلَى آخرهَا وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بعد قَوْله: حق إِلَى قَوْله: {إِن تقبل تَوْبَته وؤولئك هم الظَّالِمُونَ} وسَاق فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي مَا حذف من الْآيَة لأبي ذَر. وَقَالَ ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ إِلَى عِكْرِمَة: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ رجل من الْأَنْصَار أسلم ثمَّ ارْتَدَّ وأخفى الشّرك ثمَّ نَدم، فَأرْسل إِلَى قومه: أرْسلُوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل لي من تَوْبَة؟ قَالَ: فَنزلت إِلَى قَوْله: {غَفُور رَحِيم} فَأرْسل إِلَيْهِ قومه فَأسلم، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد بِهِ، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَوْله: {وجاءهم الْبَينَات} أَي: قَامَت عَلَيْهِم الْحجَج والبراهين على مَا جَاءَهُم بِهِ الرَّسُول ووضح لَهُم الْأَمر ثمَّ ارْتَدُّوا إِلَى ظلمَة الشّرك، فَكيف يسْتَحق هَؤُلَاءِ الْهِدَايَة بعد مَا تلبسوا بِهِ من العماية؟ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} قَوْله: {خَالِدين فِيهَا} أَي: فِي اللَّعْنَة. قَوْله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} الْآيَة هَذَا من لطفه وَرَحمته ورأفته على خلقه أَنه من تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ. قَوْله: {إِن الَّذين كفرُوا} الْآيَة توعد من الله وتهدد لمن كفر بعد إيمَانه. قَوْله: {ثمَّ ازدادوا كفرُوا} يَعْنِي: استمروا عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَات لَا تقبل لَهُم تَوْبَة عِنْد مماتهم. قَوْله: {وَأُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ} : الخارجون عَن مَنْهَج الْحق إِلَى طَرِيق الغي.
وَقَالَ: {يااأيها الَّذين ءامنوا إِن تطيعوا فريقاً من الَّذين أُوتُوا الْكتاب يردوكم بعد إيمَانكُمْ كَافِرين} هَذِه الْآيَة فِي سُورَة آل عمرَان أَيْضا، يحذر الله تَعَالَى عباده الْمُؤمنِينَ عَن أَن يطيعوا فريقاً، أَي: طَائِفَة من الَّذين أُوتُوا

الصفحة 77