كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 3)
أَعْظَمُهَا هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ أَفْصَحَ الْأُمَمِ وَأَبْلَغَهَا وَأَقْدَرَهَا عَلَى الْمَنْطِقِ وَأَكْثَرَهَا فِيهِ اتِّسَاعًا وَأَطْوَلَهَا فِيهِ بَاعًا وَأَكْمَلَهَا عَلَى أَضْرُبِهِ وَأَنْوَاعِهِ اطِّلَاعًا, مَعَ عِظَمِ مُحَادَّتِهِمْ لَهُ وَمُشَاقَّتِهِمْ فِيهِ وَشَدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى رَدِّهِ, وَهُوَ يُنَادِي عَلَيْهِمْ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِهَا, وَأَمْتَنِهَا وَأَجْزَلِهَا {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطُّورَ: 43] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هُودٍ: 13] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 23- 24] ثُمَّ نَادَى عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ لَا مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ, لَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي أَزْمَانٍ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ 88] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَلِهَذَا لِمَا أَرَادَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ معارضته مكابرة ومباهاتة مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَامَهُ أَسْمَجَ مَا يُسْمَعُ وَأَرَكَّ مَا يُنْطَقُ بِهِ, وَصَارَ أُضْحُوكَةً لِلصِّبْيَانِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ, حَتَّى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ وَلَا الْمَجَانِينَ وَلَا النِّسَاءِ وَلَا الْمُخَنَّثِينَ, وَصَارَ كَذِبُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ, وَوَسَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاسْمِ الْكَذَّابِ فَلَا يُسَمَّى إِلَّا بِهِ, وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ, حَتَّى صَارَ أَشْهَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْعَلَمُ, بَلْ لَا عَلَمَ لَهُ غَيْرُهُ أَبَدًا, وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ الْفَيْلَسُوفِ الْكِنْدِيِّ1 قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ فَقَالَ: نَعَمْ أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ, فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يَطِيقُ هَذَا أَحَدٌ, إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ, فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًا, ثُمَّ اسْتَثْنَى
__________
هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح "أبو يوسف الكندي" ت260هـ" فيلسوف اشتهر بالطب والفلسفة والهندسة والفلك والموسيقى كان صاحب الأمين والمعتصم، اشتهر بالبخل. انظر قصته هذه في لسان الميزان "6/ 305".
الصفحة 1100