كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 2)

التَّصَرُّفَاتِ, وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ يُقِرُّونَ بِهَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ أَوْثَانَهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَخْلُوقَةٌ, لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا, وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا, وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ, لَيْسَ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَى أَوْثَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ, بَلْ هُوَ الْخَالِقُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ, وَهُوَ الرَّبُّ وَمَا عَدَاهُ مَرْبُوبٌ, غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شُرَكَاءَ سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ تَفَرَّدَ بِهَا, وَقَالُوا لِمَنْ قَالَ لَهُمْ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، فَأَلْزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنَ التَّفَرُّدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ, وَيَلْتَزِمُوا لَازِمَهُ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ كَمَا أَقَرُّوا بِعَجْزِهِمْ وَعَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِشَيْءٍ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعِبَادَةَ, بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَأَحْقَرُ وَأَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَخْلُقُوا ذبابا أو أن يَسْتَنْقِذُوا مِنْهُ شَيْئًا سَلَبَهُ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا حَقَّ التَّدَبُّرِ, عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ مُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَشَاهِدُونَ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِذَلِكَ, وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ حَيْثُ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ, هَذَا فِي الظَّاهِرِ وَإِلَّا فَأَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ مُتَلَازِمَةٌ, مَنْ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَشْرَكَ فِيمَا عَدَاهُ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهُ فِي بَيَانِ الشِّرْكِ. وَمِمَّا يُقَدِّرُ ذَلِكَ غَايَةَ التَّقْدِيرِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِيهِ حُصَيْنٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ: "كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ مِنْ إِلَهٍ "؟ قَالَ: سَبْعَةَ آلِهَةٍ: سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ"؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ1. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُمْ بِاللَّهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ, وَأَمَّا فِي الشِّدَّةِ فَكَانُوا يُخْلِصُونَ الدِّينَ لِلَّهِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا هُمْ فِيهِ غَيْرُهُ, وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَسْتَطِيعُ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ
__________
1 حديث تقدم في إثبات علو الله تعالى.

الصفحة 401