كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 2)
الشِّرْكِيَّةِ ثُمَّ هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ. "فَإِنْ نَوَى الزَّائِرُ" لِلْقُبُورِ "فِيمَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ" أَيْ: كَانَتْ نِيَّتُهُ بِتِلْكَ الزِّيَارَةِ "تَذْكِرَةً بِالْآخِرَةِ" أَيْ: لِيَتَّعِظَ بِأَهْلِ الْقُبُورِ وَيَعْتَبِرَ بِمَصَارِعِهِمْ إِذْ كَانُوا أَحْيَاءً مِثْلَهُ, يُؤَمِّلُونَ الْآمَالَ وَيُخَوِّلُونَ الْأَمْوَالَ, وَيَجُولُونَ فِي الْأَقْطَارِ بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِ, وَيَطْمَعُونَ فِي الْبَقَاءِ وَيَسْتَبْعِدُونَ الِارْتِحَالَ, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا بِصَارِخِ الْمَوْتِ قَدْ نَادَى فَاسْتَجَابُوا لَهُ عَلَى الرَّغْمِ جَمَاعَاتٍ وَفُرَادَى, وَأَبَادَهُمْ مُلُوكًا وَنُوَّابًا وَقُوَّادًا وَأَجْنَادًا, وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا غَيًّا كَانَ أَوْ رَشَادًا, وَصَارَ لَهُمُ التُّرَابُ لُحَفًا وَمِهَادًا, بَعْدَ الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْحُجَّابُ أَرْصَادًا, تَسَاوَى فِيهَا صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ وَشَرِيفُهُمْ وَحَقِيرُهُمْ وَمَأْمُورُهُمْ وَأَمِيرُهُمْ, اتَّفَقَ ظَاهِرُ حَالِهِمْ وَاتَّحَدَ وَلَا فَرْقَ لِلنَّاظِرِ إِلَيْهِمْ يُمَيِّزُ بِهِ أَحَدًا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَا بَاطِنًا فَاللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ كُشِفَ لِلنَّاظِرِينَ الْحِجَابُ لَرَأَوْا مِنَ الْفُرُوقِ الْعَجَبَ الْعُجَابَ, فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ طُوبَى وَحُسْنُ مَآبٍ وَأُولَئِكَ فِي أَسْوَإِ حَالَةِ وَأَشَدِّ الْعَذَابِ, فَلْيَعْلَمِ الْوَاقِفُ عَلَيْهِمُ النَّاظِرُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ بِهِمْ مُلْتَحِقٌ, وَلِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ مُسْتَحِقٌّ, فَلْيَتَأَهَّبْ لِذَلِكَ وَلْيَتُبْ إِلَى العزيز المالك, وليلتجئ إِلَيْهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ مَا هُنَالِكَ. "ثُمَّ" قَصَدَ أَيْضًا "الدُّعَا" أَيْ: دُعَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لَهُ" أَيْ لِنَفْسِهِ "وَلِلْأَمْوَاتِ" مِنَ الْمُسْلِمِينَ "بِالْعَفْوِ" مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلَّاتِ" وَكَذَا يَدْعُو لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ "وَ" مَعَ ذَلِكَ "لَمْ يَكُنْ شَدُّ الرِّحَالَ نَحْوَهَا" الضَّمِيرُ لِلْقُبُورِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى" 1. "وَلَمْ يَقُلْ هُجْرًا" أَيْ مَحْظُورًا شَرْعًا "كَقَوْلِ" بَعْضِ "السُّفَهَا" لِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ وَلَا تَقُولُوا: هُجْرًا" 2. "فَتِلْكَ" الْإِشَارَةُ إِلَى النَّوْعِ الْمَذْكُورِ مِنَ الزِّيَارَةِ "سُنَّةٌ" طَرِيقَةٌ نَبَوِيَّةٌ "أَتَتْ صَرِيحَةً" أَيْ: وَاضِحَةً ظَاهِرَةً
__________
1 البخاري "3/ 70" في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس. وفي الحج، باب حج النساء وغيره.
ومسلم "2/ 975/ ح1338" في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره.
2 النسائي "4/ 89".
ولم يروه بهذا اللفظ من أهل السنن غيره, وسنده صحيح.
الصفحة 516