كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 1)

اخْتِلَافُ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ:
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا وَافْتَرَقُوا افْتِرَاقًا بَعِيدًا وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ وَاعِظٍ وَأَكْبَرُ زَاجِرٍ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ, وَلَمْ يَقْتَصِرْ سُبْحَانَهُ فِي تَذْكِيرِنَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ بَلْ زَجَرَنَا عَنِ الِاخْتِلَافِ زَجْرًا شَدِيدًا وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ وَعِيدًا أَكِيدًا فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 105-106] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِائْتِلَافِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالِاخْتِلَافِ1. ثُمَّ فَصَّلَ تَعَالَى مَآلَ الْفَرِيقَيْنِ وَأَيْنَ تُوَصِّلُ أَهْلَهَا كُلٌّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 106-107] وَحَذَّرَنَا عَنْ ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ, ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ" 2، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي" 3.
وَقَدْ حَصَلَ مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مِنَ الِافْتِرَاقِ, وَتَفَاقُمِ الْأَمْرِ وَعِظَمِ الشِّقَاقِ فَاشْتَدَّ الِاخْتِلَافُ وَنَجَمَتِ الْبِدَعُ وَالنِّفَاقُ.
فَافْتَرَقُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ إِلَى نُفَاةٍ مُعَطِّلَةٍ وَغُلَاةٍ مُمَثِّلَةٍ.
وَفِي بَابِ الْإِيمَانِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى مُرْجِئَةٍ وَوَعِيدِيِّةٍ مِنْ خَوَارِجَ وَمُعْتَزِلَةٍ.
وَفِي بَابِ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَقْدَارِهِ إِلَى جَبْرِيَّةٍ غُلَاةٍ وَقَدَرِيَّةٍ نُفَاةٍ.
وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى رَافِضَةٍ غُلَاةٍ وَنَاصِبَةٍ جُفَاةٍ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ وَطَوَائِفِ الْبِدَعِ وَالِانْتِحَالِ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ قَدْ تَحَزَّبَتْ فِرَقًا وَتَشَعَّبَتْ طُرُقًا, وَكُلُّ فِرْقَةٍ تُكَفِّرُ صَاحِبَتَهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهَا هِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمَنْصُورَةُ.
__________
1 أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد "ح/ 74" وابن أبي حاتم وأبو نصر في الإبانة والخطيب في تاريخه "الدر المنثور "2/ 291".
2 رواه أحمد "4/ 102" وأبو داود "4/ 198/ ح4597" في السنة، باب شرح السنة.
والدارمي "2/ 241" والحاكم "1/ 128" والآجري في الشريعة "ص18": من حديث معاوية رضي الله عنه. وسنده حسن.
وللحديث شواهد كثيرة انظرها -مختارا- في السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني "ح204".
3 هذا اللفظ رواه جماعة من الصحابة منهم:
1- أنس رضي الله عنه: رواه الطبراني في الصغير "1/ 256" والعقيلي في الضعفاء الكبير "2/ 262". وإسناده فيه عبد الله بن سفيان قال عنه العقيلي: لا يتابع على حديثه وذكره ابن حبان في الثقات.
2- عبد الله بن عمرو: رواه الترمذي "ح2641" وقال الترمذي: هذا حديث مفسر غريب لا نعرف مثل هذا إلا من هذا الوجه. قلت: فيه الأفريقي وهو ضعيف.
روي عن أبي أمامة وأبي الدرداء وواثلة بن الأسقع فهي زيادة حسنة. انظر السلسلة الصحيحة "ح204" للمحدث الألباني.

الصفحة 60