كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 2)

فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ لِأَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ, فَمَنْ جَازَهُ سَلِمَ مِنَ النَّارِ.
قُلْتُ1 وَلَيْسَ بَيْنَ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَارُضٌ وَلَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ, وَحَدِيثُهُ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا, وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْحَوْضَ لَا يُرَى وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الصِّرَاطِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَغَيْرُهُ يَرُدُّ قَوْلَهُمْ, وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا الصِّرَاطَ وَقَطَعُوهُ بَدَا لَهُمُ الْحَوْضُ فَشَرِبُوا مِنْهُ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ لَقِيطٍ هَذَا وَهُوَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ قَبْلَ الصِّرَاطِ, فَإِنَّ قَوْلَهُ "طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ" فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الطُّولِ وَالسَّعَةِ فَمَا الَّذِي يُحِيلُ امْتِدَادَهُ إِلَى وَرَاءِ الْجِسْرِ فَيَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَبَعْدَهُ, فَهَذَا فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ وَوُقُوعُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ "وَاللَّهِ عَلَى أَظْمَأِ نَاهِلَةٍ قَطُّ" النَّاهِلَةُ الْعِطَاشُ الْوَارِدُونَ الْمَاءَ أَيْ يَرِدُونَهُ أَظْمَأَ مَا هُمْ إِلَيْهِ, وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّهُ جِسْرُ النار وقد وردوه كُلُّهُمْ, فَلَمَّا قطعوه اشتد ظمؤهم إِلَى الْمَاءِ فَوَرَدُوا حَوْضَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا وَرَدُوهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ "تُحْبَسُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" أَيْ تُخْتَفَيَانِ فَتُحْتَبَسَانِ وَلَا يُرَيَانِ وَالِاحْتِبَاسُ التَّوَارِي وَالِاخْتِفَاءُ, وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَانْحَبَسَتْ وَقَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا بَيْنَ الْبَابِ وَالْبَابِ هَذَا الْمِقْدَارُ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبَابَيْنِ الْمِصْرَاعَيْنِ, وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا جَاءَ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ رَاوِيهِ بِالرَّفْعِ, بَلْ قَالَ وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا وَالثَّانِي أَنَّ الْمَسَافَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سُرْعَةِ السَّيْرِ فِيهَا وَبُطْئِهِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ "مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ" تَعْرِيضٌ بِخَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ وَالنَّدَامَةِ عَلَى ذَهَابِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ وَحُصُولِ الشَّرِّ الَّذِي يُوجِبُهُ زَوَالُ الْعَقْلِ وَمَاءٌ غَيْرُ آسِنٍ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِطُولِ مُكْثِهِ.
__________
1 هو قول ابن القيم رحمه الله تعالى.

الصفحة 773