كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 3)

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي عِبَادِهِ فَاعِلٌ حَقِيقَةً, وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً.
فَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ وَالِانْفِعَالَ كِلَاهُمَا إِلَى الْمَخْلُوقِ كَفَرَ1.
وَمَنْ أَضَافَهُمَا كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَفَرَ2, وَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً وَالِانْفِعَالَ إِلَى الْمَخْلُوقِ حقيقة كما أضافهما اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقِيقَةً.
فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ, وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ السَّابِقِ فِي سُؤَالِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الدِّينِ, وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَتَبَرَّءُوا مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَكَفَّرُوا مُنْتَحِلِيهِ وَنَفَوْا عَنْهُ الْإِيمَانَ, وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمُجَانَبَتِهِ وَالْفِرَارِ مِنْ مُجَالَسَتِهِ. ثُمَّ تَقَلَّدَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ وَالسُّنَّةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي انْتَحَلَهَا هُوَ رءوس الْمُعْتَزِلَةِ وَأَئِمَّتُهُمُ الْمُضِلُّونَ كَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ الْغَزَّالِ, وَعَمْرِو بْنِ عَبِيدٍ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَ كِتَابَةَ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ وَجَعَلَ الْعِبَادَ هُمُ الْخَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ, وَلِهَذَا كَانُوا هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ, فَأَمَّا وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ فَقَالَ فِيهِ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: رَجُلُ سُوءٍ كَافِرٌ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ مِنْ أَجْلَادِ الْمُعْتَزِلَةِ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ, وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ:
وَيَجْعَلُ الْبُرَّ قَمْحًا فِي تَصَرُّفِهِ ... وَخَالَفَ الرَّاءَ حَتَّى احْتَالَ لِلشِّعْرِ
وَلَمْ يُطِقْ مَطَرًا فِي الْقَوْلِ يَجْعَلُهُ ... فَعَاذَ بِالْغَيْثِ إِشْفَاقًا مِنَ الْمَطَرِ
وَكَانَ يَتَوَقَّفُ فِي عَدَالَةِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَيَقُولُ: إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَسَقَتْ لَا بِعَيْنِهَا, فَلَوْ شَهِدَتْ عِنْدِي عَائِشَةُ وَعَلِيٌّ وَطِلْحَةُ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ لَمْ أَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ. هَلَكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ3. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ فَهُوَ ابْنُ ثَوْبَانَ -
__________
1 وهم القدرية القائلين بأن العبد يخلق أفعاله.
2 وهم الجبرية وإخوانهم القائلين بالكسب من الأشاعرة.
3 ميزان الاعتدال "4/ 329" وكان يلثغ بالراء يقلبها غينا والشعر في وصفه, ووصف هذه الخصلة.

الصفحة 943