كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 3)

الثَّالِثَةُ: مَشِيئَتُةُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فَلَا خُرُوجَ لِكَائِنٍ عَنْ مَشِيْئَتِهِ كَمَا لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْ عِلْمِهِ.
الرَّابِعَةُ: خَلْقُهُ لَهُ وَإِيجَادُهُ وَتَكْوِينُهُ فَإِنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ, وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
فَالْخَالِقُ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ فَمَخْلُوقٌ, وَلَا وَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَيُؤْمِنُونَ مَعَ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ وَخَلَقَهُ, وَأَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَنْ حِكْمَةٍ تَامَّةٍ هِيَ الَّتِي اقْتَضَتْ صُدُورَ ذَلِكَ وَخَلْقَهُ, وَأَنَّ حِكْمَتَهُ حِكْمَةُ حَقٍّ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ قَائِمَةٌ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ, وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ مُطَابَقَةِ عِلْمِهِ لِمَعْلُومِهِ وَقُدْرَتِهِ لِمَقْدُورِهِ كَمَا يَقُولُهُ نُفَاةُ الْحِكْمَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِلَفْظِهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا, بَلْ هِيَ أَمَرٌّ وَرَاءَ ذَلِكَ, وَهِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ الْمَطْلُوبَةُ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ مَحَبَّتِهِ وَحَمْدِهِ وَلِأَجْلِهَا خَلْقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى وَأَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى وَأَضَلَّ وَهَدَى وَمَنَعَ وَأَعْطَى, وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ هِيَ الْغَايَةُ وَالْفِعْلُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا, فَإِثْبَاتُ الْفِعْلِ مَعَ نَفْيِهَا إِثْبَاتٌ لِلْوَسَائِلِ وَنَفْيٌ لِلْغَايَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ, إِذْ نَفِيُ الْغَايَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْوَسِيلَةِ, فَنَفْيُ الْوَسِيلَةِ وَهِيَ الْفِعْلُ لَازِمٌ لِنَفْيِ الْغَايَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَنَفْيُ قِيَامِ الْفِعْلِ وَالْحِكْمَةُ بِهِ نَفْيٌ لَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ, إِذْ فِعْلٌ لَا يَقُومُ بِفَاعِلِهِ وَحِكْمَةٌ لَا تَقُومُ بِالْحَكِيمِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ, وَهَذَا لَازِمٌ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى الْتِزَامَهُ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ حِكْمَتَهُ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَلِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَوْلِهِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ بَلْ قَوْلُهُ حَقٌّ وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ وَرَثَةَ الرُّسُلِ وَخُلَفَاءَهُمْ لِكَمَالِ مِيرَاثِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ آمَنُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحُكْمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ, وَقَامُوا مَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَصَدَّقُوا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ, فَآمَنُوا بِالْخَالِقِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ, وَبِالْأَمْرِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَحَشْرُ الْأَجْسَادِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ, فَصَدَّقُوا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَلَمْ يَنْفُوهُمَا بِنَفْيِ لَوَازِمِهِمَا كَمَا فَعَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِلْأَمْرِ بِالْقَدَرِ, وَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَأَقْرَبَهُمْ عَصَبَةً فِي هَذَا الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ,

الصفحة 951