كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول (اسم الجزء: 3)
قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ, نَعَمْ. نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عدوتان إحداهما مخصبة وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ, أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ, وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ, وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فلا تخرجوا فرار مِنْهُ" قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِهِ1.
وَقَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" تَقْيِيدً لِلنَّهْيِ بِخُرُوجٍ لِقَصْدِ الْفِرَارِ, فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ اللَّازِمَةِ, كَمَا قَيَّدَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشَّهَادَةَ بِهِ لِلْمَاكِثِ بِبَلَدِهِ, بِمَا إِذَا كَانَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا صَحِيحَ الْيَقِينِ ثَابِتَ الْعَزِيمَةِ قَوِيَ التَّوَكُّلِ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ, حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ, فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ, فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ" 2. فَخَرَجَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مَنْ مَكَثَ فِي أَرْضِهِ مَعَ نُقْصَانِ تَوَكُّلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ, وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْفِرَارُ مِنْهُ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلَهُ أَجْرُهُ عَلَى امْتِثَالِ الشَّرْعِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِ, وَإِنْ خَرَجَ فِرَارًا مِنْهُ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَضَافَهَا إِلَى ارْتِيَابِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ
__________
1 مالك في الموطأ "2/ 894 -896" في الجامع، باب ما جاء في الطاعون، والبخاري "10/ 178-179" في الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم "4/ 1740/ ح2219" في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة.
2 البخاري "10/ 192" في الطب، باب أجر الصابر على الطاعون، وفي الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل وفي القدر، باب "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
الصفحة 989