كتاب الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (اسم الجزء: 26)

قَال أَبُو عَبْدِ الرحمنِ: وَجَاءَ ثَلاثةُ نَفَرٍ إِلَي عَبْدِ الله بْنِ عَمرِو بنِ العَاصِ، وَأَنا عِنْدَهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمدٍ، إِنَّا وَاللهِ، مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ. لَا نَفَقَةٍ، وَلَا دَابةٍ، وَلَا مَتَاعٍ. فَقَال لَهُمْ: مَا شِئتُم. إِنْ شِئْتُمْ رَجَعتم إِلَينَا فَأعْطَينَاكُمْ مَا يَسَّرَ الله لَكُم. وإنْ شِئْتُم ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلطَانِ. وإنْ شِئْتُمْ صَبَرتُمْ. فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ يَقُولُ: "إنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ
ــ
وقوله (قال أبو عبد الرحمن الحُبُلي) عبد الله بن يزيد بالسند السابق (وجاء ثلاثة نفر) لم أر من ذكر أسماءهم (إلى عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله عنهما (وأنا عنده) أي عند عبد الله (فقالوا يا أبا محمد) كنية عبد الله بن عمرو (إنا والله ما نقدر على شيء) من المصارف التي تلزمنا وتجب علينا (لا) على (نفقة) عيال (ولا) على نفقة (دابة) مركوبة لنا (ولا) على تحصيل (متاع) وأثاث ومواعين لبيوتنا فنحن فقراء.
قال القرطبي: هذه قضية أخرى غير القضية المتقدمة وإن كان راويهما واحدًا فإنهما من رواية أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص لأن هؤلاء ثلاثة وذلك واحد ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الحديث الأول وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدة فاقتهم وأنهم لا شيء لهم فخيرهم بين الصبر على ما هم فيه حتى يلقوا الله تعالى فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من السبق إلى الجنة قبل الناس كلهم وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان فيُدفع إليهم ما يغنيهم وبين أن يواسيهم من ماله فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى والصبر على مضض الفقر وشدته. ويُفهم من هذا الحديث أن مذهب عبد الله وهؤلاء الثلاثة أن الفقر المدقع والتجرد عن المكتسبات كلها أفضل ولكن في المسألة خلاف.
(فقال) عبد الله (لهم) أي لهؤلاء النفر الثلاثة (ما شئتم) أي أي شيء شئتموه أي ماذا تشاؤون هل تشاؤون الصبر على هذا الفقر أو تشاؤون رفع أمركم إلى السلطان ليعطيكم حاجتكم، فما استفهامية ويمكن أن تكون موصولة على أنها مبتدأ خبره محذوف تقديره الذي أردتم من الأمور التي سنعرض عليكم فعلناه ثم بين تلك الأمور فقال (إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله) علينا في المساعدة (لكم وإن شئتم ذكرنا أمركم) وضيقكم (للسلطان) أي لوالي بيت المال (وإن شئتم صبرتم) على ضيقكم لتنالوا أجر الصبر (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن فقراء المهاجربن يسبقون

الصفحة 387