كتاب مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

وقال الإمام ابن عبد البر في " جامع بيان العلم: (¬1)
«وَأَفْرَطَ أَصْحَابُ الحَدِيثِ فِي ذَمِّ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ المُوجِبُ لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِدْخَالُهُ الرَّأْيَ وَالقِيَاسَ عَلَى الآثَارِ وَاعْتِبَارُهُمَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا صَحَّ الأَثَرُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ بَطَلَ القِيَاسُ وَالنَّظَرُ.
وَكَانَ رَدُّهُ لِمَا رَدَّ مِنَ الأَحَادِيثِ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِمَّنْ قَالَ بِالرَّأْيِ، وَجُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ اتِّبَاعًا لأَهْلِ بَلَدِهِ كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلاَّ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَأَفْرَطَ فِي تَنْزِيلِ النَّوَازِلِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَالجَوَابِ فِيهَا بِرَأْيِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ، [فَيَأْتِي مِنْهُمْ] مِنْ ذَلِكَ خِلاَفٌ [كَثِيرٌ] لِلسَّلَفِ وَشُنَعٌ هِيَ عِنْدَ مُخَالِفِيهِمْ بِدَعٌ.
وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلاَّ وَلَهُ تَأْوِيلٌ فِي آيَةٍ أَوْ مَذْهَبٌ فِي سُنَّةٍ رَدَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ المَذْهَبِ بِسُنَّةٍ أُخْرَى بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوِ ادِّعَاءِ نَسْخٍ، إِلاَّ أَنَّ لأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ يُوجَدُ لِغَيْرِهِ قَلِيلاً.
وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَلاَّمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ غَانِمٍ فِي مَجْلِسِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأَغْلَبِ يُحَدِّثِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: " أَحْصَيْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا قَالَ فِيهَا بِرَأْيِهِ قَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ [أَعِظُهُ] فِي ذَلِكَ».
¬__________
(¬1) 2/ 148 - 150 طبع المنيرية بمصر.

الصفحة 130