كتاب هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

مُتَابَعَةِ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُرُوجَهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمُعَادَاتِهِمْ آبَاءَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِ، وَبَذْلِهِمْ نُفُوسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ.
فَتَجْوِيزُ اخْتِيَارِ الْكُفْرِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى عَلَى شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ حَقِيرَةٍ لَهَا أَغْرَاضٌ عَدِيدَةٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ طَبَقُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَهُمْ أَعْقَلُ الْأُمَمِ وَأَكْمَلُهَا فِي جَمِيعِ خِصَالِ الْفَضْلِ، وَأَيْنَ عُقُولُ عُبَّادِ الْعِجْلِ وَعُبَّادِ الصَّلِيبِ الَّذِي أَضْحَكُوا سَائِرَ الْعُقَلَاءِ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَدَلُّوهِمْ عَلَى مَبْلَغِهَا بِمَا قَالُوهُ فِي مَعْبُودِهِمْ مِنْ عُقُولِ الْمُسْلِمِينَ؟
وَإِذَا جَازَ اتِّفَاقُ أُمَّةٍ - فِيهَا مَنْ قَدْ ذَكَرَهُ هَذَا السَّائِلُ - عَلَى أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، نَزَلَ عَنْ عَرْشِ عَظَمَتِهِ وَكُرْسِيِّ رِفْعَتِهِ، وَدَخَلَ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ فِي مَحَلِّ الْحَيْضِ وَالطَّمْثِ عِدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا طِفْلًا يَمُصُّ الثَّدْيَ، وَيَبْكِي وَيَكْبُرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَبُولُ وَيَصِحُّ وَيَمْرَضُ، وَيَفْرَحُ وَيَحْزَنُ، وَيَلِدُ وَيَأْلَمُ، ثُمَّ دَبَّرَ حِيلَةً عَلَى عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ بِأَنْ مَكَّنَ أَعْدَاءَهُ الْيَهُودَ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَمْسَكُوهُ وَسَاقُوهُ إِلَى خَشَبَتَيْنِ يَصْلُبُونَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُمْ يَجُرُّونَهُ إِلَى الصَّلِيبِ، وَالْأَوْبَاشُ وَالْأَرَاذِلُ قُدَّامَهُ وَخَلْفَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، فَقَرَّبُوهُ مِنَ الْخَشَبَتَيْنِ، ثُمَّ تَوَّجُوهُ بِتَاجٍ مِنَ الشَّوْكِ، وَصَفَعُوهُ صَفْعًا، ثُمَّ حَمَلُوهُ عَلَى الصَّلِيبِ، وَسَمَّرُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَجَعَلُوهُ بَيْنَ لِصَّيْنِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَ هَذَا كُلَّهُ لِتَتِمَّ لَهُ الْحِيلَةُ عَلَى إِبْلِيسَ، لِيُخَلِّصَ آدَمَ وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ سِجْنِهِ، فَفَدَاهُمْ بِنَفْسِهِ حَتَّى خَلَصُوا مِنْ سِجْنِ إِبْلِيسَ.
وَكَذَلِكَ أَنِفُوا أَنْ يَكُونَ لِلْبَتْرَكِ وَالرَّاهِبِ زَوْجَةٌ أَوْ وَلَدٌ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْوَلَدَ وَالزَّوْجَةَ، وَكَذَلِكَ أَنِفُوا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُطِيعُوا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ رَضُوا بِعِبَادَةِ الصَّلِيبِ وَالصُّوَرِ الْمَصْنُوعَةِ بِالْأَيْدِي فِي الْحِيطَانِ، وَطَاعَةِ كُلِّ مَنْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ أَوْ يُحَلِّلُ لَهُمْ مَا شَاءَ وَيُشَرِّعُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا شَاءَ وَمِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا التَّعْوِيضِ أَنِفَتِ الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ مُبَايِنًا مِنْ خَلْقِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَحْصُورًا بِزَعْمِهِمْ فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ قَالُوا: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، فَحَصَرُوهُ فِي الْآبَارِ وَالسُّجُونِ وَالْأَنْجَاسِ وَالْأَحْوَاشِ، وَعَوَّضُوهُ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ عَنْ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَاقِلُ لَعِبَ الشَّيْطَانِ بِعُقُولِ هَذَا الْخَلْقِ، وَضَحِكَهُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِهْزَاءَهُ بِهِمْ.

(فَصْلٌ) : وَقَوْلُ الْمَسِيحِ: إِذَا انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ، مَعْنَاهُ أَنِّي أُرْسِلُهُ بِدُعَائِي وَطَلَبِي مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَهُ، كَمَا يَطْلُبُ الطَّالِبُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا، أَوْ يُوَلِّيَ نَائِبًا، أَوْ يُعْطِيَ أَحَدًا، فَيَقُولُ: أَنَا أَرْسَلْتُ هَذَا وَوَلَّيْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ، أَيْ كُنْتُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذَا قَضَى بِأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ، فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ أَسْبَابًا يَكُونُ بِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ دُعَاءُ بَعْضِ عِبَادِهِ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ إِجَابَةُ دُعَائِهِ، مَضَافًا إِلَى نِعْمَتِهِ بِإِيجَادِ مَا قَضَى كَوْنَهُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا بِهِ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

الصفحة 243