كتاب البدعة ضوابطها وأثرها السيء في الأمة

توبة المبتدع
وأما توبة المبتدع، فيرى بعض علماء التابعين بُعدها، وأن المبتدع لا ينتقل من بدعة إلا إلى شر منها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} .
فعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال: "كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة توبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها".
ولهذا كان العوام بن حوشب يقول لابنه: "يا عيسى، أصلح قلبك، وأقلل مالك"، وكان يقول: "والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط - أي: المزهر والعود والأشربة والباطل، أحبُّ إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات"، قال ابن وضَّاح: "يعني: أهل البدع".
ولماذا يقول ذلك؟، لأن البدعة يعتقدها صاحبها دينا، فيبقى متمسكا بها تمسكه بدينه، وإذا خرج من بدعته خرج إلى بدعة شر منها، وأما أصحاب المعاصي كأصحاب المزهر والعود من المغنين، وأصحاب الشراب فهم أصحاب شهوات، ويعلمون أن تلك الأعمال معاصي دفعتهم إلى ارتكابها شهواتهم ونفوسهم الأمارة بالسوء، فقد يتركونها يوما من الأيام لاعتقادهم حرمتها، فصاحب المعصية تُرجى له التوبة والإقلاع عنها أكثر من صاحب البدعة التي يعتقدها دينا.
ويظهر أن المقصود به صاحب البدعة الذي أُشربَ قلبه البدعة حتى بلغت من قلبه مبلغا عظيما، بحيث أصبح يطرح ما سواها في جنبها، حتى أصبح ذا بصيرة فيها وحب لها فلا يَنثني عنها، فهي عنده في غاية المحبة، ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة؛ والى وعادى بسببه، ولم يبال بما لقي في طريقه، كأصحاب البدع القدامى والمعاصرين، فالقدامى كالخوارج الذين لم يرجعوا عن بدعتهم وأهوائهم، من التكفير لأصحاب الكبائر، فمن ارتكب كبيرة، حكموا بكفره في الدنيا والآخرة، مخالفين نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الذي أخرجه البخاري: "أن من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"

الصفحة 19