من الطين كان الى جانب الجذع وكأنه كان بناء مرتفعا فقط، وليس له درج ومقعده بحيث يكمل الإرتفاق به، فلا ينفى ما تقدم في سبب اتخاذ المنبر من خشب، ويؤيد ذلك ما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة - رضى الله عنها- قالت: (فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر الحديث، وهذه القصة متقدمة على اتخاذ المنبر من الخشب) (1).
... وبهذه المحاولة الجيدة من السمهودى استطاع التوفيق بين ما جاء في الصحاح من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستند إلى الجذع إذا خطب، وبين ما ذكر بعض أهل السيرة من أنه كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذى من الخشب، حيث جعل منبر الطين إلى جوار الجذع فلا ينافى أن يكون - صلى الله عليه وسلم - واقفا على المنبر ومستندا إلى الجذع في آن واحد، وبهذا تتوافق الروايات الصحيحة مع ما ذكر بعض أهل السير.
... وروى السمهودى عن الدرامى من حديث بريدة: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم - إذا خطب قام فأطال القيام. فكان يشق عليه قيامه، فأتى بجذع نخلة، فحفر له، وأقيم الى جنبه قائما للنبى - صلى الله عليه وسلم - فكان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب فطال القيام عليه استند فاتكأ عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة، فرآه قائما الى جنب ذلك الجذع، فقال لمن يليه من الناس: لو أعلم أن محمدا يحمدنى في شئ يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فان شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام، فبلغ ذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائتونى به، فأتوه به، فأمر أن يصنع له هذه المراقى الثلاث أو الأربع، وهى الآن في مسجد المدينة، فوجد النبى - صلى الله عليه وسلم - في ذلك راحته) (2).
... وهذه الرواية تفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - استند إلى الجذع لما شق القيام، ويفهم منها أنه كان قبل ذلك يخطب غير مستند إلى الجذع ولما كان الجذع لا يمكن الجلوس عليه بشكل يريح الجالس ظلت المشكلة قائمة وظل - صلى الله عليه وسلم - يشكو مشقة القيام بسبب مرض كان في فخذه سبَّبَ له ضعفا في رجليه.
قال السمهودى: (وفى كتاب ابن زبالة عن خالد بن سعيد مرسلا، أن تميما الدارى كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتد عليه وجع كان يجده في فخذيه يقال له الزجر، فقال له تميم: يا رسول الله ألا أصنع لك منبرا تقوم عليه، فإنه أهون عليك إذا قمت وإذا قعدت؟) (3).
__________
(1) المصدر السابق ص 397. (3) وفا الوفا الجزء الثاني ص 389 تحقيق محيى الدين عبد الحميد.
(2) المصدر السابق ص 393.