كتاب شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (اسم الجزء: 7)

استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجتريء المكلف علي تعاطيه، بل يتوقفه ريثما يتأمل فيه، فيظهر له أنه من أي القبيلين هو، فإن اجتهد ولم يظهر له أثر الرجحان، بل رجع طرف الذهن عن إدراكه حسيرًا تركه في حيز التعارض أسيرًا، وأعرض عما يريبه إلي ما لا يريبه، استبراء لدينه أن يختل بالوقوع في المحارم، وصيانة لعرضه عن أن يتهم بعدم المبالاة بالمعاصي والبعد عن الورع، فإن من هجم علي الشبهات وتخطي خططها، ولم يتوقفه دونها وقع في الحرام؛ إذ الغالب أن ما وقع فيه من الشبهات لا يخلو عن المحارم، كما أن الراعي إذا رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
و ((ألا)) مركبة من همزة الاستفهام، وحرف النفي؛ لإعطاء معنى التنبيه علي تحقق ما بعدها و ((الحمى)) هو المرعى الذي حماه الإمام، ومنع من أن يرعى فيه، شبه المحارم من حيث أنها ممنوعة التبسط فيها والتخطي لحدودها، واجبة التجنب عن جوانبها وأطرافها بحمى السلطان، وكما يحتاط الراعي ويتحرز عن مقاربة الحمى حذرًا عن أن تتخطاه ماشيته، فيتعرض لسخط، ويستوجب تأديبه، ينبغي أن يتورع المكلف عن الشبهات، ويتجنب عن مقارنتها، كيلا يقع في المحارم ويستحق به السخط العظيم والعذاب الأليم. ولما كان التورع والتهتك مما يتبع ميلان القلب إلي الصلاح والفجور، نبه علي ذلك بقوله: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله)) ليقبل المكلف عليه فيصلحه ويمنعه عن الانهماك في الشهوات، والإسراع إلي تحصيل المشتهيات، حتى لا يتبادر إلي الشبهات، ولا يستعمل جوارحه في اقتراف المحرمات. قوله: ((استبرأ)) أي احتاط لنفسه وطلب البراءة. ((مح)): أي حصل البراءة لدينه من الذم الشرعي وصان عرضه من كلام الطاعن. ((حس)) فيه دليل علي جواز الجرح والتعديل، وأن من لم يتوق الشبه في كسبه ومعاشه فقد عرض دينه وعرضه للطعن. قوله: ((ومن وقع في الشبهات)) ((مح)): يحتمل وجهين: أحدهما: أن من يكثر تعاطي الشبهات يصادف الحرام وإن لم يعمده، وقد يأثم بذلك إذا قصر في التحري. والثاني أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه، ويجسر علي شبهة ثم شبهة أغلظ منها ثم أخرى، وهلم جرا إلي أن يقع في الحرام عمدًا، وهذا معنى قولهم: المعاصي تسوق إلي الكفر.
((حس)): هذا الحديث أصل في الورع، وهو أن ما اشتبه علي الرجل أمره في التحليل والتحريم، ولا يعرف له أصل متقدم، فالورع أن يتركه ويجتنبه؛ فإنه إذا لم يتركه واستمر عليه واعتاده، جره ذلك إلي الوقوع في الحرام. ولو وجد في بيته شيئًا، لا يدري هل هو له أو لغيره، فالورع أن يجتنبه، ولا عليه تناوله، لأنه في يده. ويدخل في هذا الباب معاملة من في ماله شبهة أو خالطه ربًا، فالأولي أن يحترز عنها ويتركها، ولا يحكم بفسادها ما لم يتيقن أن عينه حرام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه من يهودي بشعير أخذه لقوت أهله، مع أنهم يربون في معاملاتهم ويستحلون أثمان الخمور. روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تسأل السلطان،

الصفحة 2099