كتاب شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (اسم الجزء: 2)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأقول: يجوز أن يحمل الإحسان على الإنعام، وذلك أن العمال المرائي يبطل عمله ويحبطه، فيظلم على نفسه، فقيل له: أحسن إلى نفسك، ولا تشرك بالله، واعبد الله كأنك تراه، وإلا فتهلك، قال الله تعالى:) الذين يمكرون الشيئات لهم عذاب شديد) فإنها واردة في المرائي. ويجوز أن يحمل على المعنى الثاني، وعليه قوله تعالى: (أحسن كل شيء خلقه) وقوله تعالى: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) أي المجيدين المتقنين في تعبير الرؤيا، كأنه سأل جبريل (عليه السلام) بما ينبيء عنه الإخلاص، كما قال الله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن).
وأما تقدير الشرط والجزاء فهو أن يقال: إن لم تعبدالله كأنك تراه فاعبده كأنه يراك. وتحرير المعنى وإن لم تكن تراه كذلك أي مثل تلك الرؤية المعنوية فكن بحيث إنه يراك. وهو من جوامع الكلم، أي كن عالما متيقظا، لا ساهيا غافلا، كجدا في مواقف العبودية، مخلصا في نيتك، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى؛ فإن من علم أن له حافظا رقيبا شاهدا بحركاته وسكناته- لا سيما ربه ومالك أمره- فلا يسىء الأدب طرفة عين، ولا فلتة خاطر، هذا هو معنى الإجادة في الإيمان والإسلام. وقيل: التقدير فإن لم تكن تراه فلا تغفل فإنه يراك.
والأولى أن نضرب عن هذا المجل صفحا، ونأخذ في منهل آخر، فنقول: (كأنك) إما مفعول مطلق، أو حال من الفاعل، والثاني أوجه؛ لأنه يحصل به للعابد ثلاث حالات، كما إذا قلت: كأن زيدا قائم، فتصور له حالات القعود والانتصاب، والقيام، فتشبه حالة الانتصاب بالقيام؛ لأنك فإدخال (كأن) توهم أن له حالة غير القيام، وهي المشبه بالقيام، كما إذا رأى الناظر شخصا من بعيد فتردد بين قيامه وقعوده، ثم خيل له أنه إلى القيام أقرب فقال: كأنه قائم، أي يشبه انتصابه بالقيام، كذلك في الحديث. للعبد بين يدي مولاه حالات ثلاث إحداها: حالة اشتغاله بالعبادة على سنن تسقط القضاء، من حفظ شرائطها وأركانها وهيآتها. وحالة تمكنه من الإخلاص في القصد، وأنه بمرأى من مولاه، وهو مراقب لحركاته وسكناته. وحالة مشاهدته، واستغراقه في بحار المكاشفة، وإليه لمح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (جعلت قرة عيني في الصلاة وأرحنا بها يا بلال) فشبه الحالة الثانية التي هي المراقبة بحالة المكاشفة التي هي من خواص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا. ووجه التشبيه حصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السر به، ونتيجته نسيان الأحوال من العلوم، واضمحلال الرسول. فلما

الصفحة 430