كتاب شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (اسم الجزء: 2)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(قض): وتأنيث (ربتها) وإضافتها إما لأجل أنه سبب عتقها، أو لأنه ولد ربها أو مولاها
بعد الأب، وذلك إشارة إلى قوة الإسلام؛ لأن كثرة السبي والتسري دليل على استعلاء الدين،
واستيلاء المسلمين، وهي من الأمارات؛ لان قوته وبلوغ أمره غايته منذر بالتراجع والانحطاط
المؤذن بأن القيامة ستقوم.
وأقول_ والعلم عند الله_: الكلام فيه صعب، بل هو مقام دحض، قلما تثبت فيه الأقدام
الراسية في البيان، وكان قلما يلتفت الخاطر إلى معرفته، وما تكلم فيه العلماء لم يكن يشفى
العليل، إلى أن تصديت أن تصديت لأمر هذا الخطب الجليل، فالواجب أولا تعيين المقام؛ لأن بيده زمام
حكم الكلام، ولا ارتياب أن أمارات الساعة وأشراطها من عظائم الشئون، وجلائل الخطوب،
فيجب حينئذ تأويل القريتين، أعنى قوله: (أن تلد الأمة ربتها) وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة_
إلى قوله_ يتطاولون في البنيان) بما ينبئ عن ذلك النبأ العظيم من تغير الزمان، وانقلاب
أحوال الناس، بحيث لم يشاهد قبله، ولم ير مثله، وكيف؟ ولفظة (ترى) تنادى عن ذلك؛
لأنها من الخطاب العام على الاستغراق، كقوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم
عند ربهم) يعنى بلغ الخطب في العظم والفخامة بحيث لا يختص برؤية راء ةاحد، بل
كل من يتأتى منه الرؤية فهو مخاطب به.
فإذا تقرر بيان اقتضاء المقام فنثنى العنان إلى بيان الأساليب التي يستعان بها على تطبيق
القرينتين على ما يقتضيه المقام، من (المطابقة المعنوية)، (والكناية الزبدية)، و (الإدماج) المسمى
بإشارة النص. فنقول القرينة الثانية دلت بالكناية الزبدية_ التي لا ينظر فيها إلى مفردات
التركيب، لا حقيقة ولا مجازاً، بل تؤخذ الزبدية والخلاصة من المجموع_على أن الأذلة من
الناس ينقلبون أعزه، ملوك الأرض، فينبغي أن تتول القرينة السابقة بما يقابلها؛ ليطابقا في أن
يصير الأعزة أذلة، ومعلوم أن الأم مربية للولد، ومدبرة أمره، فإذا صار الولد ربا ومالكا لها -
لا سيما إذا كانت بنتا- ينقلب الأمر، هذا هو المعنى بالتشديد والمبالغة الموعود بهما، ثم في
وضع الأمة ووصفها بالولادة موضع الأم إشعار بمعنى الاسترقاق والاستيلاء، وأن أولئك
الضعفة الأذلة الذين فهموا من القرينة الثانية هم الذين يتعدون ويتسلطون ويفتحون البلاد
ويسترقون كرائم النساء وشرائفها، ويستولدونها، فتلد الأمة ربتها.
فالحاصل: أن قوله: (أن تلد الأمة ربتها) دل بعبارته على المقصود، وبإشارته على معنى
آخر، وهو كثرة المستولدات، وإنما وصف النساء بالشرف والكرامة ليفيد المعنى المقصود، كان
الواقع كذلك، ألا ترى إلى الملكة حرقة بنت النعمان حين سبيت وأحضرت بين يدى سعد
ابن أبى وقاص (رضي الله عنه) كيف انشدت:

الصفحة 433