كتاب شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (اسم الجزء: 2)

8 - وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار). متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ينتفع به. ومحبة الفضل، كمحبة أهل العلم بعضهم بعضًا لأجل العلم. (خط): لم يرد بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان الحاصل من الاعتقاد؛ لأن حب الإنسان لنفسه ووالده طبع مركوز عريزي خارج عن حد الاستطاعة، ولا تكلف نفس إلا وسعها، ولا سبيل إلى قلبه، ومعناه لا تصدق لي حتى تفدي في طاعتي نفسك، وتؤثر رضائي على هواك وإن كان فيه هلاكك.
أقول: قوله: (لا سبيل إلى قلبه) ليس بمطلق، وذلك أن المحب ينتهي في المحبة إلى أن يتجاوز عن الهوى، فيؤثر هو المحبوب على هوى نفسه فضلا عن محبة ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم بمحبوبته، قال:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم
وأيضا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحب إليه من والده وولده) إشعار بالموازنة والترجيح، وتلميح إلى قضية النفس بالأمارة، واللوامة، والمطمئنة، فإن الأمارة ما ئلة إلى اللذات وحب العاجلة، والمطمئنة مقابلة بها مرجحة لحب الآجلة، فإن من رجح جانب الأمارة كان حب أهله ووالده، راجحًا على حبه - صلى الله عليه وسلم -. ومن رجح جانب المطمئنة كان حكمه بالعكس، وإليه الإشارة بقوله (تعالى): (يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
ولا ارتياب أن من دخل في زمرة عبادة المرتضين، وانخرط في سلط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- ولا يحب أن ينكص على عقبيه، فيرجح جانب الأهل والأولاد على جانبه - صلى الله عليه وسلم - وهذا محال. وفي هذا التقرير أيضا معنى قوله: (ووجد حلاوة الإيمان) وذلك أن النفس الأمارة موءوفة كمن غلبت عليه الصفراء. فإنه لا يجد حلاوة العسل، فإذا صحت واطمأنت زال عنه ذلك المرض، فيجد حلاوة الإيمان. والله أعلم.
ويؤيده قول القاضي عياض: في محبته - صلى الله عليه وسلم - نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. وإذا تبين ما ذكرناه بين ان حقيقة الإيمان لا يتك إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق أعلى قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنزلته على كل والد وولد، ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا فليس بمؤمن.

الصفحة 443