كتاب السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة

الأمر الثالث: اختُص هذا التاريخ بميزة فريدة لم توجد في غيره من تواريخ الأمم الأخرى، ألا وهي خاصية الإسناد المعتمد أساسًا على علم الرجال؛ لأن معظم المؤرخين المسلمين هم في الحقيقة محدِّثون مثل ابن إسحق، وخليفة بن خياط، والطبري، وغيرهم؛ لذلك اهتموا بالإسناد كثيرًا في مروياتهم.
ولكي نعرف مدى أهمية الإسناد وتفرُّد المسلمين بعلم الرجال دون غيرهم من الأمم السابقة، نستمع إلى هذين القولين من رجلين مختلفين، أحدهما عالم مسلم، والآخر مستشرق ألماني.
فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قوله: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما يشاء"1.
ويقول المستشرق الألماني سبرنجر: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"2.
"فمن أراد أن يتسلل خلال بعض الثقوب ليطعن هذا التاريخ فليطعن قبل هذا جميع أخبار الدنيا منذ نشأتها إلى يومنا هذا، وليطعن كل تراث الإنسانية بما في ذلك الكتب المقدسة السابقة على القرآن الكريم، فإن هذا التاريخ الإسلامي الذي بين أيدينا هو أوثق من كل هذا. ومع ما ذكرنا، إنما هو في جملته محكم مترابط كثير وجوه الإسناد، ولا يعيبه ضعف بعض أسانيده، وضعف الراوي لا يعني أنه كذَّاب، بل إن الراوي الذي عرف عنه الكذب قد يصدق أحيانًا. ومن القواعد المعمول بها أن الرواية الضعيفة ترتفع إلى مرتبة الحسن، وأن الحسن يرتفع إلى الصحيح إذا ساندته روايات أخرى ولو كانت ضعيفة في حالتها
__________
1 مقدمة الإمام مسلم في صحيحه (1/40) .
2 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (61) .

الصفحة 7