كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

الجديدة عقول الفلاسفة وأسس الفكر اليوناني الوثني الجاهلي (١). فتغير مصدر التلقي وهذه هي أول هزة للمجتمع الإِسلامي - ولو كان انحراف المعتزلة انحرافاً سلوكياً لهان الأمر وقد ينقطع بانقطاعهم، ولكن الأمر أشنع وأنكى، إنه انحراف عقدي أدى إلى تغيير مصدر التلقي عندهم وإثارة الشبه على مصدر التلقي عند الأمة الإسلامية، فبدأ التشكيك فيه من جهة وتمجيد المصدر العقلي عند المخالفين من جهة أخرى، ومهما كان من جهد علماء الأمة في الرد على المعتزلة فإن بقاءهم في داخل الأمة الإسلامية وهم يحملون هذا الانحراف كان له من الأثار السيئة على اتجاه الأمة الإسلامية ما نعاني منه حتى هذه اللحظة.
وانظر إلى الفرق الضخم بين عقيدة الصحابة وعقيدة هؤلاء لتعرف مدى الخطورة التي يحملها الفكر الذي بُني على التراث اليوناني الجاهلي.
إن أمر التشريع لله كما أن الخلق له، يستوي في ذلك ما صغر شأنه وما عظم في الخلق والأمر، فالخلق خلقه، حبة الزرع وجنة الخلد، والسحاب الذي بين السماء والأرض والكرسي الذي فوقه عرش الله سبحانه وتعالى، والأمر
له سبحانه في تحديد مواصفات الحياة الإسلامية على هذه الأرض ابتداء من أحكام الأسرة .. إلى أحكام الدولة .. والأمر أمره في بيان صفاته سبحانه وإنزال كلامه لا معقب لحكمه ولا مغير ولا مبدلْ، له الخلق والأمر - هذه هي عقيدة الجيل الأول رضوان الله عليهم، ومحمد - عليه السلام - مبلغ ومبين ومبشر ومنذر وسراج منير وعبد الله ورسوله.
ثم جاء الفكر المنحرف فأقر بالخلق وأشرك العقل في مصدر التلقي - وفي أبعد ما يكون عن إدراكه - أشركه في التعرف على صفات الله .. فبدأ من ذلك الحين مسلك جديد في الفكر والاعتقاد يغذيه الفكر اليوناني على يد الفلاسفة قديماً، وتغذيه المذاهب المادية حديثاً .. وهذه المرة سَهُل على المستشرقين وحملة الفكر الأروبي الدخول لزعزعة صفات الشريعة ومنها الثبات والشمول، والذي
---------------
(١) سنذكر من الأدلة ما يثبت هذا الذي نقوله هنا، ونكتفي في هذا الموضع بالإشارة إلى أثر تلك العقيدة التي تحدثنا عنها على الثبات والشمول سلباً وإيجاباً.

الصفحة 42