كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

تصوير مذهب المخالفين:
يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة - وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيّروا بعض الأحكام تبعاً لتغيّر المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة.
والسر في ذلك - والله أعلم - أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (١) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو مادل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم: "كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله"، أو "كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا" الخ .. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلّا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلّا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم" (٢).
والأحكام - فيما سوى العبادات - تتغير بتغير المصالح والأزمان (٣)، ويقول في موضع آخر: "وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من
---------------
(١) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطاً معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها.
(٢) تعليل الأحكام ٧١.
(٣) المرجع نفسه ٥٦ - ٦٤.

الصفحة 456