كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا .. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهويستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً.
وبعد: فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة ..
ومثال الأول قول الشارع "كل مسكر حرام" ومثال الثاني قولنا هذا الشراب مسكر.
فإذا نظر الفقيه في شراب ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع فعمله هذا يسمى "تحقيق المناط" وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكراً أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإِسكار عنه - كأن أصبحت الخمر خلاً - فأفتى بجواز استعمالها فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت.
ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (١).
---------------
(١) ومثله ما نسبه إلى عمر - رضي الله عنه - ص ٣٧ - ٣٨. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر - رضي الله عنه - مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}.
والظاهر - والله أعلم - أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفاً فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون.

الصفحة 482