كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

ثالثًا: قال الإِمام الشاطبي إن العقول قد تدرك بعض المصالح كما كان يصنعه أهل الفترات، حيث اتبعوا بعض الأحكام - اتباعًا لبعض المعاني - فجرت بذلك مصالحهم، وذلك ما كانوا يعملونه في الجاهلية، كالدية والقسامة، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة للوعظ - والقراض وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك، ومع ذلك فإنهم قصّروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، وأما في التعبديات فكان الصحيح منها نادرًا، وهو ما أخذوه من ملة إبراهيم - عليه السلام - (١).
ثم جاءت الشريعة وأقرت من هذه الأحكام ما أقرت، ورفضت منها ما رفضت، وما قبلته أصبح من نظامها لا على أنه حكم الجاهلية خالط حكم الإِسلام، وأن الإِسلام تأثر به، بل لأن الإِسلام اختاره وأقره، ولو لم يقره لم يكن منه البتة، وهو بهذا الإِقرار أصبح من شريعة الإِسلام، وأخذ شرعيته من إقرار الإِسلام به.
وقد صرح الإِمام الشاطبي أن هذا الإِقرار لهذه المصالح من الشارع حيث قال: "ومن ها هنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة ... " (٢).
ونحن نطالب من يريد اتباع المصالح حيث كانت أن يأتي بإقرار من الشارع، على أن هذا الأمر مصلحة وليس بمفسدة لا نريد منه أكثر من ذلك.
والمصالح حينئذ قسمان كما قرره الشاطبي نفسه:
الأول: ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بالمسالك المعهودة - ويقصد بالمسالك الإِجماع والنص والإِشارة والسير والمناسبة وغيرها - ولا يطلع عليه إلا بالوحي، فهو موقوف على التعبد المحض، ومعنى هذا أن من زعم أنه يدرك
---------------
(١) الموافقات ٢/ ٢٢٥ - ٢٢٦.
(٢) المصدر السابق ٢/ ٢٢٦.

الصفحة 513