كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد، وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات، والفواحش على مراتبها في القبيح فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن، فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وبعد وفاته، في زمان التابعين، إلّا أن خطة الإِسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجًا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يِحَقُّ لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضي أحكامًا خاصة، أو بدت من بعضهم فلتأت في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات، والمحرمات والمكروهات، إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلًا عن غيرها، كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإِسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وضرى على استحسانها فَرِيقُهُ ومال إليها طَبْعهُ، وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كان لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم، وطلبوا بدمائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان، تارة بالقرآن، وتارة بالسنة، فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المجملات، وقيدت تلك المطلقات، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستنًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلًا من الله ونعمه، فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ، لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات،

الصفحة 527