كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

هذا هو مقصود الإِمام الشاطبي الذي أدرك بعمق حقيقة منهج التربية الذي دعت إليه هذه الشريعة، وحددت جميع معالمه بما اشتملت عليه من أحكام، والذي واكبت فيه القدرات الفذة للنفس البشرية التي بلغت الذروة في اقامة الحق والإِحسان، وواكبت فيه أيضًا في المرحلة المدنية طبيعة النفس البشرية، وهي وإن لم تلزمها بمراتب الإحسان إلّا أنها لم تقبل منها تضييع الحق والإِعراض عنه.
وهذا كلام محكم دقيق تلوح منه معالم منهج التربية الإِسلامية ممتزج بأصول الفقه وهذا ليس فيه أن الكليات ثابتة والجزئيات متغيرة كما فهم بعض الباحثين، بل في النص المنقول ما هو صريح بثبات النوعين، حيث يقول الإِمام الشاطبي عن المرحلة المدنية التي تبعت المرحلة المكية " ... فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المجملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستنًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المتقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلًا من الله ونعمة ... " (١).
فالمجموع من الكلي والجزئي، محفوظ ثابت، وقانون مطرد في جميع العصور والأزمان، والمدني مبني على الكليات المكية المتقدمة ومتمم له.
بقي أن ننظر في السبب الذي حمل الباحث على أن يستنتج ذلك المعنى الفاسد فنجد ذلك يرجع إلى عدم فهمه لقول الإِمام الشاطبي: " ... وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات ... " (٢).
فنقل النص من معنى صحيح إلى معنى فاسد، والمعنى الصحيح كما قدمت آنفًا، أن من أسباب تفصيل الأحكام الجزئية في المدينة هو حدوث وقائع لم تكن فيما تقدم - في المرحلة المكية - وقد علل الشاطبي ذلك تعليلًا حسنًا.
---------------
(١) ٤/ ١٥٥.
(٢) ٤/ ١٥٥.

الصفحة 530