كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

لا بالأقوال ولا بكثرة الأموال، وإنما علمت مواطن جهادهم، وقوة صبرهم، ومواقفهم الثابتة في نصرة الحق، حتى قدموه على الأموال والأولاد، وعلى زينة الحياة الدنيا، فصبروا وصابروا ورابطوا، فأخذوا مكانتهم في الأمة لا رغبة منهم بل رغبة منها فهي التي حرصت عليهم، وجعلتهم في المقدمة تقتدي بهم وتنصرهم، وتعلم علم اليقين -كما علمها الله- أن هذه الصفوة من كل جيل لا يمكن أن تجتمع على طلب غرض من أغراض الدنيا، ولا على اتباع هوى وتفريط في الحق، لأن الله علم منها الصدق فجعل لها تلك المنزلة، فهي خلاصة منهج التربية المنبثق من تلك الشريعة، فلا يتصور أن يخالفوها مجتمعين، ومن ثم عصم الله جماعتهم من الخطأ وأيقنت الأمة بذلك فانقادت لما أجمعوا عليه وعلمت أنه حكم الله وشرعه.
هذه هي طبيعة الأمة الخيرة وهذه هي منزلة المجتهدين، وذلك هو الطريق الذي توصلوا به إلى تلك المنزلة، وبه تم الارتباط الوثيق بينهم وبين الأمة، وهذه التوطئة مع ما فيها من إيجاز تعرفنا بحقيقة الإِجماع، ومعناه اللغوي والشرعي مواكب لما قدمته آنفًا، فهو في اللغة مصدر أجمع يجمع إجماعًا فهو مجمع، وجمع أمره عزم عليه، وأجمع القوم على كذا أي اتفقوا (١).
وفي الاصطلاح الشرعي: "اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر على أي أمر كان" (٢) وفيه دلالة على أنهم إن اتفقوا كان ذلك منهم إجماعًا، وإن
---------------
(١) انظر مادة "جمع" في اللسان ٨/ ٥٧.
(٢) جمع الجوامع مع حاشية البناني ٢/ ٢٧٦، وعرفه البيضاوي بقوله "هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور" ٢/ ٢٧٣، وصححه الأسنوي ٢/ ٢٧٥. والمراد بالاتفاق ما يشمل القولي والفعلي، وأهل الحل والعقد المقصود بهم أهل الاجتهاد، وقيد "مجتهد" يدخل المسائل الاجتهادية وحينئذ لا بد من مستند لها كما سيأتي بيانه، وقوله "بعد وفاة الرسول" لكون الإِجماع ليس بحجة في عهده إذ هو المرجع والعصمة ثابتة له، والمراد بلفظ "عصر" أي زمان كان، وتركه البيضاوي لوضوحه والتصريح به أنسب في التعريف كما قال في التلويح والقصود بقوله "على أي أمر كان" أي على أي حكم اتفق المجتهدون عليه. =

الصفحة 544