كتاب الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

وقبل أن ندرس ونبين منزلة هذا القسم نشير بإيجاز إلى الفرق بين الخلاف المذموم شرعًا وغير المذموم وكيف يقع غير المذموم مع وجوب الرد إلى الكتاب والسنّة.
فأقول: الخلاف المذموم هو ما حمل عليه الهوى والتعصب، ولم يلتزم فيه الناظر ضوابط منهج الاستدلال الشرعية، أو إلتزمها ولم يستفرغ وسعه في طلب الحق.
وغير المذموم هو ما كان بضد ذلك، والدليل على عدم ذمه وقوعه بين
---------------
= ومن ثم لا يلزم من الذهاب إلى قول ثالث له شد من الشريعة تخطئه جماعة الصحابة، لأنا لم نقطع بأن جماعتهم ليس عندهم إلّا هذين القولين، وهنا نفرق تفريقًا واضحًا بين ما نقل فيه إجماعهم - وقد قدمنا الكلام في الإِجماع - وبين المسائل الاجتهادية. وأؤكد ما قلته آنفًا إن الاختلاف على قولين ليس له حكم الإِجماع، لأنه يختلف عنه من حيث إمكان تجدد الاجتهاد فيه، وهذا أهم فارق بينهما، تجعل ما اختلف الصحابة فيه على قولين ألصق بمسائل الاجتهاد، وبيان ذلك من عدة أوجه:
الأول: إمكان تجدد الاجتهاد فيه من حيث الرجوع إلى قول واحد وترك القول الثاني.
الثاني: إمكان تجدد الاجتهاد فيه من حيث زيادة بعض الصحابة أنفسهم لقول ثالث، وذلك من خلال نظر شرعي مستأنف في أدلة المسألة.
الثالث: إن استئناف الاجتهاد من الصحابة أنفسهم والذهاب إلى قول ثالث لا يعتبر شذوذًا.
ومن هذه الأوجه يتأكد لنا دخول هذه المسألة في مسائل الاجتهاد لاختلافها عن طبيعة الإِجماع، وإن كانت تشبهه عند أصحاب القول الأول في عدم جواز إحداث قول اجتهادي ثالث، فلنلحقها بمسائل الاجتهاد المختلف فيها، لصدق هذا الوصف عليها، ولنحتفظ لها بمنزلة خاصة بين مسائل الاجتهاد المختلف فيها، تشبه منزلة قول الصحابي، عند أحمد والشافعي.
وهذا كله مبني على عدم التيقن من حصر الخلاف في قولين، ومبني أيضًا على عدم إمكان هذا الحصر لا في جيل الصحابة ولا في الأجيال التي تليه، ويترتب عليه عدم القول بتخطئة جماعة المجتهدين، مع فتح باب الاجتهاد كشفًا عن حكم آخر، أو تصحيحًا لقول سابق، واختيار الأقرب إلى نصوص الكتاب والسنّة، والله أعلم.

الصفحة 572