كتاب محاضرات في النصرانية
وهم لا يستطيعون رد قوله في الجماهير، وحتى لقد صارت المسيحية الحاضرة مطبوعة بطابعه، منسوبه إليه، ولقد تعجب الذين أرسلوا الديانات وعرفوا أحوال رجالها، وأدوارهم، فيقولون: كيف ينتقل رجل من كفر بديانة إلى اعتقاد شديد بها طفرة، من غير سابق تمهيد، ولكن ذلك العجب يزول إن كان الانتقال مقصوراً على مجرد الانتقال من الكفر إلى الإيمان، فإن لذلك نظائر وأشباها، بل العجب كل العجب أن ينتقل شخص من الكفر المطلق بدين إلى الرسالة في الدين الذي كفر به، وناواه وعاداه، فإن ذلك ليس له نظير وليس له مشابه، ولم يعهد ذلك في أنبياء ورسل قط، وهذه توراة اليهود وأسفار العهد القديم التي يؤمن بها المسيحيون كما رووها، وكما قالوها ليذكروا لنا رسولاً بعث من غير أن يكون في حياته الأولى استعداد لتلقي الوحي، وصفاء نفس يجعله أهلاً للإلهام؟ ولا يجعل الاتهام والتكذيب يغلبان على رسالته، وإنه إذا لم يكن للرسالة أرهاصات قبل تلقيها، لا يكون على الأقل قبلها ما ينافيها ويناقضها. ولكن بولس أبو العجب استطاع أن يتغلب على ذلك العجب في عصره، وأن يفرض نفسه على المسيحيين من بعده، وأن يحملهم على نسيان العقل عندما يدرسون أقواله وآراءه وتعاليمه.
بيد أن العقل يخترق بنوره الحجب، ويزيل بضوئه كل أسداف الظلم، ولو قاوم في سبيل ذلك براعة بولس وذكاءه، ولذل وجد في العصور المسيحية من كانوا يثيرون مناقشات قوية حول أقوال بولس منكرين لها مبطلين، ونسارع فنقول مقالة القس عبد الأحد: "إن بولس يبجل ويعظم رجلاً اسمه عيسى أميت ومات. وحيى فقط، وإن خمس عشرة رسالة من كتب العهد الجديد تحمل اسم الرسول المشار إليه، فلا محمل للحيرة إذا قلت أن المؤسس الحقيقي للمسيحية الحاضرة هو بولس، فإن شاول الشاب الطرسوسي من سبط بنامين. ومن مذهب الفريسيين وتلميذ أحد علماء الدهر عضو مجلس صانهدرين المدعو عمانيل ... الذي كان يجتهد اسم عيسى وأتباعه من الأرض، والذي رأى عدوه الناصرى في السماء لامعاً داخل الأنوار وقت الظهر أمام دمشق. اهتدى وسمى باسم بولس.
وهو الذي وضع أساس العيسوية". والقسم الأعظم من أعمال الرسل يبحث من سباحات بولس الطويلة وجهوده ومتاعبه،
الصفحة 75
200