كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر (اسم الجزء: 24)

ثم تعاهد قبري وادع الله عز وجل لي لعله أن يرحمني فلما مات فعل به أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث من إتيانه القبر أراد أن ينصرف فسمع وجبة (1) من القبر كادت أن تذهل عقله فرجع مرعوبا فلما كان الليل رأى أخاه في منامه قال فوثبت إليه لما تداخل قلبي من السرور فقال أتيتنا زائر أم راغبا قال هيهات بعد المزار واطمأنت بنا الدار فليس لنا مزار فقلت كيف أنت قال بكل خير وما أجمع التوبة لكل خير قلت فكيف أخي قال مع الأئمة الأبرار قال قلت فما أمرنا قبلكم قال من قدم شيئا وجده فاغتنم وجدك قبل فقرك فأصبح أخوه الثالث معتزلا للدنيا وفرق ماله وقسم متاعه وأقبل على طاعة الله عز وجل فقال يا بني ما لأبيك مال فأوصي فيه ولكن أعهد إليك إذا أنا مت أن تدفني مع عميك وأن تكتب على قبري: * وكيف يلذ العيش من هو صائر * إلى جدث تبلي الشباب منازله وتذهب رسم الوجه من بعد ضوئه * سريعا ويبلى جسمه ومفاصله * ثم تعاهد قبري ثلاثة وادع الله عز وجل لي ففعل ذلك الفتى ذلك فلما كان اليوم الثالث سمع من القبر صوتا هاله وانصرف مهموما فلما كان الليل رأى أباهفي منامه فقال له يا بني أنت عندنا عن قليل والأمر جد فاستعد وتأهب لرحيلك وطول سفرك وحول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت له قاطن ولا تغتر بما اغتر به البطالون من طول آمالهم فقصروا في أمر معادهم فندموا عند الموت وأسفوا على تضييع العمر ولا الندامة عند الموت نفعتهم ولا الأسف على التقصير أنقذهم أي بني فبادر ثم بادر ثم بادر قال الشيخ فدخلت على الفتى صيحة ثالثة رؤياه فقصها علي وقال ما أرى الأمر الذي قال أبي إلا قد أظلني فجعل يفرق ماله ويقضي دينه واستحل معاملته وودعهم وداع من أيقن أمرا فهو يتفجعه وكان يقول قال أبي بادر ثم بادر ثم بادر ولا أحسبها إلا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام ولعلي لا أدركها لأنه أنذرني بالمبادرة (2) ثلاثا فلما كان في آخر اليوم الثالث دعا أهله وولده فودعهم ثم استقبل القبلة وتشهد وجعل يدعو ويستغفر فلما وجد الموت سجى نفسه ومد الثوب على وجهه ثم مات من
_________
(1) الوجبة: صوت الشئ يسقط (اللسان)
(2) بالأصل: المبادرة

الصفحة 45